الآباء الرُسل في مواجهة الهراطقة
لقد كان جهاد الآباء الرسل ينصب في اتجاهين متكاملين: نشر الكرازة بالإنجيل وحفظ الإيمان سليمًا بلا عيب... لئلا يتغير إنجيل المسيح. لذلك وقفوا بالمرصاد لكل مَنْ يخرج عن الإيمان الأرثوذكسي، أنظر ما قاله معلمنا يوحنا الرسول: "كَتَبْتُ إِلَى الْكَنِيسَةِ، وَلَكِنَّ دِيُوتْرِيفِسَ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ الأَّوَلَ بَيْنَهُمْ لاَ يَقْبَلُنَا. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ إِذَا جِئْتُ فَسَأُذَكِّرُهُ بِأَعْمَالِهِ الَّتِي يَعْمَلُهَا، هَاذِرًا عَلَيْنَا بِأَقْوَالٍ خَبِيثَةٍ. وَإِذْ هُوَ غَيْرُ مُكْتَفٍ بِهَذِهِ، لاَ يَقْبَلُ الإِخْوَةَ، وَيَمْنَعُ أَيْضًا الَّذِينَ يُرِيدُونَ، وَيَطْرُدُهُمْ مِنَ الْكَنِيسَةِ" (3يو1: 9، 10).
دور الأسقف في حفظ الإيمان:
وكانت سيامة الأسقف هدفها الأساسي هو حفظ الإيمان، كما أوصى مُعلِّمنا بولس تلميذيه تيموثاوس وتيطس: "كَمَا طَلَبْتُ إلَيْكَ أنْ تَمْكُثَ فِي أفَسُسَ، إذْ كُنْتُ أنَا ذَاهِبًا إلَى مَكِدُونِيَّةَ، لِكَيْ تُوصِيَ قَوْمًا أَنْ لاَ يُعَلِّمُوا تَعْلِيمًا آخَرَ" (1تي1: 3).
"إِنْ فَكَّرْتَ الإِخْوَةَ بِهَذَا تَكُونُ خَادِمًا صَالِحًا لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، مُتَرَبِّيًا بِكَلاَمِ الإِيمَانِ وَالتَّعْلِيمِ الْحَسَنِ الَّذِي تَتَبَّعْتَهُ" (1تي4: 6).
"يَا تِيمُوثَاوُسُ، احْفَظِ الْوَدِيعَةَ، مُعْرِضًا عَنِ الْكَلاَمِ الْبَاطِلِ الدَّنِسِ، وَمُخَالَفَاتِ الْعِلْمِ الْكَاذِبِ الاِسْمِ. الَّذِي إذْ تَظَاهَرَ بِهِ قَوْمٌ زَاغُوا مِنْ جِهَةِ الإِيمَانِ" (1تي6: 20–21).
"تَمَسَّكْ بِصُورَةِ الْكَلاَمِ الصَّحِيحِ الَّذِي سَمِعْتَهُ مِنِّي، فِي الإِيمَانِ وَالْمَحَبَّةِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ. اِحْفَظِ الْوَدِيعَةَ الصَّالِحَةَ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ السَّاكِنِ فِينَا" (2تي1: 13 – 14).
ليس هذا فقط بل كان أيضًا مسئولا عن اختيار الخدام الأكفاء الذين ينقلون التعليم سليمًا.
"وَمَا سَمِعْتَهُ مِنِّي بِشُهُودٍ كَثِيرِينَ، أَوْدِعْهُ أُنَاسًا أُمَنَاءَ، يَكُونُونَ أَكْفَاءً أَنْ يُعَلِّمُوا آخَرِينَ أَيْضًا" (2تي 2: 2).
ويكون أيضًا "مُلاَزِمًا لِلْكَلِمَةِ الصَّادِقَةِ الَّتِي بِحَسَبِ التَّعْلِيمِ، لِكَيْ يَكُونَ قَادِرًا أَنْ يَعِظَ بِالتَّعْلِيمِ الصَّحِيحِ وَيُوَبِّخَ الْمُنَاقِضِينَ" (تي1: 9).
وكان دائمًا هدف التوبيخ والعقوبة هو الخلاص "وَخَلِّصُوا الْبَعْضَ بِالْخَوْفِ مُخْتَطِفِينَ مِنَ النَّارِ..." (يه1: 23)، وكان التخوف الوحيد هو انتشار الفكر الهرطوقي فيهلك كثيرون "خَمِيرَةٌ صَغِيرَةٌ تُخَمِّرُ الْعَجِينَ كُلَّهُ. وَلَكِنَّنِي أَثِقُ بِكُمْ فِي الرَّبِّ أَنَّكُمْ لاَ تَفْتَكِرُونَ شَيْئًا آخَرَ. وَلَكِنَّ الَّذِي يُزْعِجُكُمْ سَيَحْمِلُ الدَّيْنُونَةَ أَيَّ مَنْ كَانَ" (غل5: 9 – 10).
شيء مؤلم:
حقًا إن كل الهراطقة كانوا أعضاء في جسد المسيح، لكنهم اختاروا لأنفسهم القَطع "كُلُّ غُصْنٍ فِيَّ لاَ يَأْتِي بِثَمَرٍ يَنْزِعُهُ..." (يو15: 2)، "إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَثْبُتُ فِيَّ يُطْرَحُ خَارِجًا كَالْغُصْنِ فَيَجِفُّ وَيَجْمَعُونَهُ وَيَطْرَحُونَهُ فِي النَّارِ فَيَحْتَرِقُ" (يو15: 6).
أنه شيء مؤلم، لكنهم اختاروا لأنفسهم طريق الهلاك، وقد اجبروا -بهذا الاختيار- الكنيسة على أن تتخذ إزاءهم موقفًا شديدًا: "هَادِمِينَ ظُنُونًا وَكُلَّ عُلْوٍ يَرْتَفِعُ ضِدَّ مَعْرِفَةِ اللهِ، وَمُسْتَأْسِرِينَ كُلَّ فِكْرٍ إِلَى طَاعَةِ الْمَسِيحِ، وَمُسْتَعِدِّينَ لأَنْ نَنْتَقِمَ عَلَى كُلِّ عِصْيَانٍ، مَتَى كَمِلَتْ طَاعَتُكُمْ" (2كو10: 5-6).
الهرطقة تمزيق للمسيح:
إن وحدة جسد المسيح لا تحتمل وجود الهراطقة... بل قَطع الهراطقة هو ضمان لحفظ وحدانية الجسد والروح والفكر.
ووجود الهراطقة داخل الكنيسة يُهدد وحدتها، وسلامتها وسلامة إيمانها "وَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنْ تُلاَحِظُوا الَّذِينَ يَصْنَعُونَ الشِّقَاقَاتِ وَالْعَثَرَاتِ خِلاَفًا لِلتَّعْلِيمِ الَّذِي تَعَلَّمْتُمُوهُ وَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ. لأَنَّ مِثْلَ هَؤُلاَءِ لاَ يَخْدِمُونَ رَبَّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحَ بَلْ بُطُونَهُمْ وَبِالْكَلاَمِ الطَّيِّبِ وَالأَقْوَالِ الْحَسَنَةِ يَخْدَعُونَ قُلُوبَ السُّلَمَاءِ" (رو16: 17 – 18).
"لَيْسَ افْتِخَارُكُمْ حَسَنًا. أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ خَمِيرَةً صَغِيرَةً تُخَمِّرُ الْعَجِينَ كُلَّهُ؟. إِذًا نَقُّوا مِنْكُمُ الْخَمِيرَةَ الْعَتِيقَةَ لِكَيْ تَكُونُوا عَجِينًا جَدِيدًا كَمَا أَنْتُمْ فَطِيرٌ. لأَنَّ فِصْحَنَا أَيْضًا الْمَسِيحَ قَدْ ذُبِحَ لأَجْلِنَا" (1كو5: 6 – 7).
"وَلَكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُظْهِرُ أَنَّهُ يُحِبُّ الْخِصَامَ فَلَيْسَ لَنَا نَحْنُ عَادَةٌ مِثْلُ هَذِهِ وَلاَ لِكَنَائِسِ اللهِ" (1كو11: 16).
"كَيْ لاَ نَكُونَ فِي مَا بَعْدُ أَطْفَالًا مُضْطَرِبِينَ وَمَحْمُولِينَ بِكُلِّ رِيحِ تَعْلِيمٍ، بِحِيلَةِ النَّاسِ، بِمَكْرٍ إِلَى مَكِيدَةِ الضَّلاَلِ. بَلْ صَادِقِينَ فِي الْمَحَبَّةِ، نَنْمُو فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَى ذَاكَ الَّذِي هُوَ الرَّأْسُ: الْمَسِيحُ" (أف 4: 14 – 15).
إذًا ليس مطلوبًا من الإكليروس والخدام مجرد البناء الروحي للشعب بمعزل عن تثبيت الإيمان الصحيح ومحاربة الأفكار الهرطوقية.
وإلا يقف الكتاب المقدس ضدنا يفضح جهلنا ويديننا على تقصيرنا في مواجهة الهرطقة والأفكار المنحرفة من جهة الإيمان.
إن معلمنا بولس الرسول لم يكتفِ بالجهاد الحسن وإكمال السعي بل أيضًا قال "... حَفِظْتُ الإِيمَانَ" (2تي 4:7).
إن البعض يظنون أن الروحانية الصادقة تكمن في البُعد عن هذه الأمور... والاكتفاء بتقديم شخص السيد المسيح للناس وعدم التعرض للخلافات العقيدية... وعدم محاربة المنحرفين... وقبول الآخر مهما كان فكره منحرفًا.
ولكن يبدو أيضًا أن هذا البعض يظنون في أنفسهم أنهم أكثر روحانية من وصايا الإنجيل. بل قد يكونون أكثر روحانية مِن السيد المسيح!! الذي واجه المنحرفين بكل حزم قائلًا لهم " وَيْلٌ لَكُمْ "..
يجب – فيما نحمل في قلوبنا كل الحب لكل الناس – ألا نتنازل عن إيماننا واستقامته مهما كان الثمن
الخادم والمعرفة:
لذلك يوصينا الكتاب المقدس بضرورة المعرفة: "إِلَى أَنْ أَجِيءَ اعْكُفْ عَلَى الْقِرَاءَةِ وَالْوَعْظِ وَالتَّعْلِيمِ" (1تي4: 13).
"لاَحِظْ نَفْسَكَ وَالتَّعْلِيمَ وَدَاوِمْ عَلَى ذَلِكَ، لأَنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ هَذَا تُخَلِّصُ نَفْسَكَ وَالَّذِينَ يَسْمَعُونَكَ أَيْضًا" (1تي 4: 16).
"فَتِّشُوا الْكُتُبَ لأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً. وَهِيَ الَّتِي تَشْهَدُ لِي" (يو5: 39).
والسيد المسيح حَثنا على المعرفة بسؤاله للرجل الناموسي "كَيْفَ تَقْرَأُ؟" (لو10: 26)، وَقِيل في سفر الرؤيا "طُوبَى لِلَّذِي يَقْرَأُ وَلِلَّذِينَ يَسْمَعُونَ أَقْوَالَ النُّبُوَّةِ، وَيَحْفَظُونَ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِيهَا، لأَنَّ الْوَقْتَ قَرِيبٌ" (رؤ 1: 3).
وقد عَاتب الله شعبه بسبب عدم المعرفة والفهم حينما قال "اَلثَّوْرُ يَعْرِفُ قَانِيهِ وَالْحِمَارُ مِعْلَفَ صَاحِبِهِ أَمَّا إِسْرَائِيلُ فَلاَ يَعْرِفُ. شَعْبِي لاَ يَفْهَمُ" (إش 1: 3).
وقيل عن السيد المسيح "فَتَعَجَّبَ الْيَهُودُ قَائِلِينَ: كَيْفَ هَذَا يَعْرِفُ الْكُتُبَ وَهُوَ لَمْ يَتَعَلَّمْ؟" (يو7: 15)، وسأل فيلبس الخصي "فَبَادَرَ إِلَيْهِ فِيلُبُّسُ وَسَمِعَهُ يَقْرَأُ النَّبِيَّ إِشَعْيَاءَ فَسَأَلَهُ: أَلَعَلَّكَ تَفْهَمُ مَا أَنْتَ تَقْرَأُ؟" (أع 8: 30).
إن المسيحية ليست ديانة ساذجة ولا مجرد انفعال عاطفي بل هي فكر ومعرفة وإيمان واعِ بالمسيح.
والمسيحيون الحقيقيون يدرسون في معرفة الله نهارًا وليلًا.. لقد قِيل عن الجماعة المسيحية الأولى: "... فَقَبِلُوا الْكَلِمَةَ بِكُلِّ نَشَاطٍ فَاحِصِينَ الْكُتُبَ كُلَّ يَوْمٍ: هَلْ هَذِهِ الأُمُورُ هَكَذَا؟" (أع 17: 11).
إن الخادم الذي يقود شعبه إلى السطحية وعدم المعرفة إنما يُسلمهم بيده إلى الهلاك... حتى ولو تحت إدعاء أنه يكفي الشرح الروحي البسيط والتلامس الشخصي مع المسيح بعيدًا عن المعرفة اللاهوتية...
إنهم ينطبق عليهم القول المقدس "قَدْ هَلَكَ شَعْبِي مِنْ عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ. لأَنَّكَ أَنْتَ رَفَضْتَ الْمَعْرِفَةَ أَرْفُضُكَ أَنَا حَتَّى لاَ تَكْهَنَ لِي..." (هو4: 6).
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق