هل السيد المسيح تزوج ؟
الرد على الجريدة الحكومية المصرية (اليوم السابع) التي تقول ان المسيح تزوج مريم المجدلية، ومرة أخرى تقول أن المسيح تزوج خمس عذارى
هل السيد المسيح تزوج مريم المجدلية ؟
أولًا: لم يذكر العهد الجديد في أي موضع مطلقًا أن المسيح كان متزوجًا، هذا بافتراض ناسوته، كإنسان، ولم يكن من ضمن رسالته ذلك، ولم يكن من ترتيبه ذلك. ولم يمهد لخلافة تكون من نسله أبدًا. فقد جاء الرب يسوع المسيح لنشر ملكوت السموات في العالم أجمع، وقد أعد لذلك تلاميذه ليكونوا شهودا له ولعمله الفدائي ولرسالته ككل "ثم دعا تلاميذه الاثني عشر وأعطاهم سلطانا على أرواح نجسة حتى يخرجوها ويشفوا كل مرض وكل ضعف. وأما أسماء الاثني عشر رسولا فهي هذه" (مت10 :1و2)، "وبعد ذلك عيّن الرب سبعين آخرين أيضا وأرسلهم اثنين اثنين أمام وجهه إلى كل مدينة وموضع حيث كان هو مزمعا أن يأتي" (لو10:1). وفي لحظات صعوده قال لهم: " لكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم وتكونون لي شهودا في أورشليم وفي كل اليهودية والسامرة والى أقصى الأرض" (أع1 :8). ولو كان في نيته الزواج وإنجاب نسل ملكي، كما هو مزعوم، لكان قد أعلن عن ذلك، بل وكان قد جهز نسله الملكي المقدس لهذه المهمة.
ولو افترضنا جدلًا أنه كان يقصد ملكوتا دنيويًا، فسيكون ملكه في أورشليم، أي سيكون ملكًا لليهود، وهذا لم يتحقق، وإذا تخيلنا أن ذلك يمكن أن يتحقق عندما يكتشف العالم حقيقة سر الدم المقدس والنسل الملكي للمسيح، فهذا يعني أن ملكوته سيكون في إسرائيل ولصالحها ويجعلها سيدة العالم!! وهذه فكرة صهيونية بحتة تنفي عن مسيح المسيحية عقيدة مجيئه الثاني في نهاية العالم، وتنكر ما جاء في الفكر الإسلامي عن نزول المسيح آخر الزمان وكونه علامة للساعة "وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا" (الزخرف:61).
كما ظهر مع المسيح أمه العذراء القديسة مريم وأخوته أكثر من مرة؛ " فقال له واحد هوذا أمك وإخوتك واقفون خارجا طالبين أن يكلموك" (مت12 :47). ولم يذكر أن له زوجة مطلقًا. وعند الصليب سلم المسيح أمه لرعاية تلميذه الحبيب يوحنا " يا امرأة هوذا ابنك. ثم قال للتلميذ هوذا أمك. ومن تلك الساعة أخذها التلميذ إلى خاصته" (يو19 :27). وإذا كان له زوجة فلماذا يتركها دون أن يسلمها ليوحنا مع أمه لتكون تحت رعايته ورعاية أمه؟ وإذا كان قد أعدها لقيادة الكنيسة فلماذا لم يحدث ذلك؟ كما دافع القديس بولس عن حقه في الزواج لو كان قد أراد ذلك فيقول " ألعلنا ليس لنا سلطان أن نجول بأخت زوجة كباقي الرسل وأخوة الرب وصفا" (1كو9 :5). فإذا كان قد استشهد بزوجات الرسل، أخوة الرب وبطرس، فلماذا لم يستشهد بالمسيح أيضًا لو كان قد تزوج قبل الصلب والقيامة والصعود.
كما أن زعمه بأن كل رجل يهودي، حسب العرف الاجتماعي في ذلك العصر، لابد أن يتزوج فهذا ادعاء كاذب وباطل؛ فقد كان هناك عدد كبير من الأنبياء غير متزوجين مثل ارمياء النبي ويوحنا المعمدان، بل وكانت هناك جماعات من اليهود ترفض الزواج مثل جماعة الآسينيين في قمران، زمن المسيح.
وكان الرب يسوع المسيح نفسه عريسًا، ولكن عريسًا للكنيسة، فهو رأس الكنيسة " لان الرجل هو رأس المرأة كما أن المسيح أيضًا رأس الكنيسة. وهو مخلّص الجسد" (أف5 :23)، وعريسها السمائي " لنفرح ونتهلل ونعطيه المجد لان عرس الحمل (المسيح) قد جاء وامرأته (الكنيسة) هيأت نفسها. وأعطيت أن تلبس بزا نقيا بهيا لان البزّ هو تبررات القديسين. وقال لي اكتب طوبى للمدعوين إلى عشاء عرس الحمل" (رؤ19 :7-9)
ثانيًا: فهمه الخاطئ لما جاء في الإنجيل الأبوكريفي بحسب فيليب، حيث يقول: " ورفيقة المخلص هي مريم المجدلية, أحبها المسيح أكثر من كل التلاميذ واعتاد أن يقبلها في معظم الأحيان من فمها. وقد تضايق باقي التلاميذ من ذلك وعبروا عن استيائهم. وقالوا آه،" لماذا تحبها أكثر منا؟". " بالعكس " قال تيبينج بالفرنسية ثم ابتسم مشيرًا إلى السطر الأول: إذا سألت أي عالم باللغة الآرامية فسيقول لك أن كلمة رفيقة في تلك الأيام كانت تعني حرفيًا الزوجة"!!
وهذا الزعم كاذب ومجرد ادعاء بلا دليل، لأن النسخة التي عثر عليها من هذا الكتاب في مكتبة نجع حمادي مكتوبة بالقبطية وليس الآرامية، ويرى العلماء أن الكتاب والذي كتب أصلًا في القرن الرابع كتب باليونانية، ولو افترضنا أن الكلمة اليونانية كانت تعني زوجة لترجمت " زوجة " وليس رفيقة. فمن أين أتى الكاتب بالمعنى من الآرامية والكتاب لم يكتب بها؟!
بل ويرى هذا الكتاب الأبوكريفي الزواج كنوع من الدنس، فيقول " قال البعض: " أن مريم حبلت بالروح القدس "، أنهم مخطئون، أنهم لا يعلمون ماذا يقولون. فمنذ متى تحبل المرأة من امرأة؟ إن مريم هي العذراء التي لا قوة تدنسها, أنها لعنة عظيمة على العبرانيين, الذين هم الرسل والتلاميذ. هذه العذراء التي لا قوة تدنسها القوى تدنس نفسها".
بل ويرى المسيح كروح محض يظهر في أشكال مختلفة: " يسوع أخذهم سرا, لأنه لم يظهر كما كان, ولكن لكي يستطيعوا أن يروه. ظهر لهم جميعهم. ظهر للعظماء كعظيم. ظهر للصغير كصغير. ظهر للملائكة كملاك, وللإنسان كإنسان, لهذا السبب, الكلمة تخفي نفسها من الجميع. وبالفعل, فقد رآه معتقدين أنهم رأوا أنفسهم, لكنه حين ظهر لتلاميذه بمجد على الجبل, لم يكن صغيرا. أصبح عظيما, وقد جعل التلاميذ عظماء, لكي يستطيعوا إن يروه بعظمة". وبالتالي فكيف يتزوج وينجب وهو روح؟!
وهذا الفكر يوجد ما يماثله عند بعض الكتاب المسلمين مثل الصوفي الشهير ابن العربي والكاتب المصري أحمد بهجت والكاتب اللبناني محمود شلبي :
قال ابن العربي: " وتمثل لها جبريل أو الملك بشرًا سويًا وقال لها أنا رسول ربك لأهبك غلامًا زكيًا فوهبها عيسى عليه السلام فكان انفصال عيسى عن الملك المتمثل في صورة الرجل ولذلك حرج على صورة أبيه ذكرًا بشرًا روحًا فجمع بين الصورتين اللتين كان عليهما أبوه الذي هو الملك فأنه روح من حيث عينه بشر من حيث تمثله في صورة البشر ".
وقال الأستاذ محمود شلبي: " فالسر الأعظم.. أن النسبة الروحية في عيسى أضخم من المعتادة في الناس.. فغلبت فيه صفات الروح.. على صفات الجسد.. فجاء عيسى.. وفيه صفات أعلى نوع من الأرواح.. الذي يفعل ما شاء.. وهذا هو سر الطلسم في عيسى.. فهو يُحيي الموتى .. ويمشى على الماء.. ويمشي في الهواء.. ويخلق الطير فيكون طيرًا.. ويبرئ الأكمه والأبرص.. بمجرد اللمس.. ولا يحتاج إلى طعام أو شراب.. لأن الروح لا تطعم ولا تشرب.. فكيف بنفخة الروح القدس.. وهو آخذ من مرتبته.. 0 وهو يستطيع أن يتمثل فيما شاء من الهيئات والصور.. لأن هذا من صفات الأرواح.. وقد ثبت هذا عنه في أكثر من موضع.. أن هيئته كانت تتغير إلى هيئة أخرى.. وهو ينبئهم بما يأكلون وما يدخرون.. وهذه صفة من صفات الأرواح. تعلم من الغيوب إلى مسافات بعيدة في المكان والزمان.. فجاء جسده مجرد غلاف لطيف تتستر به.. روحه العلوية الُقدسية..".
وقال الأستاذ أحمد بهجت في تعليقه على قوله " إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ" (آل عمران: 45 و46):
" زادت دهشة مريم.. قبل أن تحمله في بطنها تعرف اسمه.. وتعرف أنه سيكون وجيهًا عند الله والناس، وتعرف أنه سيكلم الناس وهو طفل وهو كبير.. وقبل أن يتحرك فم مريم بسؤال آخر.. رأت الروح الأمين يرفع يده ويدفع الهواء في اتجاه مريم.. وجاءت نفخة الهواء مضيئة بنور لم تره " مريم " من قبل.. وتسلل هذا النور إلى جسد مريم وملأه فجأة.. لم تعد وحدها، وهي تحس أنه (الملاك) لم يتركها وحيدة.. حركت يده دفعة ملأتها من النور.. هذا النور يتحول داخل بطنها إلى طفل.. طفل سيصبح عندما يكبر كلمة الله وروحه التي ألقاها إلى مريم.. كان حملها يختلف عن النساء.. لم تمرض ولم تشعر بثقل ولا أحست أن شيئًا زاد عليها ولا أرتفع بطنها كعادة النساء.. كان حملها به نعمة طيبة ".
أما عبارة " واعتاد أن يقبلها في معظم الأحيان من فمها "، فهي عبارة غير دقيقة، لأن المخطوطة التي وردت بها قديمة وبها أجزاء تالفة ولم ترد فيها كلمة " فمها " على الإطلاق، فقد وردت هكذا " واعتاد أن يقبلها في معظم الأحيان من "، ولم ترد كلمة معينة هنا،بل فراغ، وقد وضع بعض المترجمين كلمة من فمها لسد هذا الفراغ، ولكن هذا غير علمي، فيمكن أن توضع كلمات مثل " يدها أو وجهها " مثلًا، أو يترك الفراغ كما هو. كما لا يعني التقبيل هنا الجنس، فبحسب مفهوم إنجيل فيليب نفسه فالمسيح روح محض، ولا يمكن أن تعني قبلته سوى علامة حب روحي لا أكثر ولا أقل.
كما أن بقية النص يقول: " وقد تضايق باقي التلاميذ من ذلك وعبروا عن استيائهم. وقالوا آه،" لماذا تحبها أكثر منا؟". والسؤال هنا هو، لو كانت المجدلية هي زوجته فهل كان التلاميذ يسألون مثل هذا السؤال؟ فهل يسأل معلم لماذا يحب زوجته أكثر من تلاميذه؟ والرب يسوع المسيح نفسه يقول، وينقل عنه القديس بولس قوله: " من اجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكون الاثنان جسدا واحدا" (مت19 :5، أف5 :31). لقد تضايقوا، بحسب مفهوم الكاتب، بسبب تفضيل وليس بسبب زواج.
مريم المجدلية في العهد الجديد :
تُذكر مريم المجدلية في الإنجيل بأوجهه الأربعة التي للقديسين متى ومرقس ولوفا ويوحنا في الآيات التالية :
(1) الإنجيل للقديس لوقا "وبعض النساء كنّ قد شفين من أرواح شريرة وأمراض. مريم التي تدعى المجدلية التي خرج منها سبعة شياطين ويونّا امرأة خوزي وكيل هيرودس وسوسنة وأخر كثيرات كنّ يخدمنه من اموالهنّ" (لو8 :1-3).
وهنا نرى المجدلية وقد أخرج منها الرب يسوع المسيح سبعة شياطين، ثم صارت إحدى تلميذاته اللواتي كن يخدمنه من أموالهن، ليس وحدها بل مع "يونّا امرأة خوزي وكيل هيرودس وسوسنة وأخر كثيرات". ولا يوجد ما يميزها عنهن في شيء إلا كونها الوحيدة التي كانت تدين له بالفضل الكثير لإخراجه منه سبعة شياطين. وهذا ما يفسر تعلقها الكبير ووجودها بالقرب منه في أهم المواقف.
(2) الإنجيل للقديس متى: "وكانت هناك نساء كثيرات ينظرن من بعيد وهنّ كنّ قد تبعن يسوع من الجليل يخدمنه. وبينهنّ مريم المجدلية ومريم أم يعقوب ويوسي وأم ابني زبدي.. فاخذ يوسف الجسد ولفه بكتان نقي. ووضعه في قبره الجديد الذي كان قد نحته في الصخرة ثم دحرج حجرا كبيرا على باب القبر ومضى. وكانت هناك مريم المجدلية ومريم الأخرى جالستين تجاه القبر" (مت27 :55-61). "وبعد السبت عند فجر أول الأسبوع جاءت مريم المجدلية ومريم الأخرى لتنظرا القبر" (متى28: 1).
(3) الإنجيل للقديس مرقس: " كانت أيضا نساء ينظرن من بعيد بينهنّ مريم المجدلية ومريم أم يعقوب الصغير ويوسي وسالومة. اللواتي أيضا تبعنه وخدمنه حين كان في الجليل. وأخر كثيرات اللواتي صعدن معه إلى أورشليم.. وكانت مريم المجدلية ومريم أم يوسي تنظران أين وضع" (مر15 :40و41).
وهنا يؤكد كل من القديسين متى ومرقس وجودها عند الصليب، ليست وحدها بل ضمن نساء كثيرات كانت هي بينهن. بل وظلت مع مريم أم يوسى ويعقوب الصغير المعروف بأخي الرب (مر6 :3؛غل1 :19)، أي أخت العذراء، تتابعان الدفن حتى تم وضع الحجر على القبر. وفي يوم السبت كانت مع مريم أم يعقوب لتطييب جسد المسيح، كما كانت عادة اليهود. أي كانت مع النسوة عند الصلب واستمرت متابعة لعملية الدفن حتى انتهت، وكانت مع أول من ذهبن على القبر.
وفي وصف القيامة يقول القديس متى: " وبعد ما مضى السبت اشترت مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وسالومة حنوطا ليأتين ويدهنّه. وباكرا جدا في أول الأسبوع أتين إلى القبر إذ طلعت الشمس. وكنّ يقلن فيما بينهنّ من يدحرج لنا الحجر عن باب القبر. فتطلعن ورأين أن الحجر قد دحرج. لأنه كان عظيما جدا. ولما دخلن القبر رأين شابا جالسا عن اليمين لابسا حلة بيضاء فاندهشن. فقال لهنّ لا تندهشن. انتنّ تطلبن يسوع الناصري المصلوب. قد قام. ليس هو ههنا. هوذا الموضع الذي وضعوه فيه. لكن اذهبن وقلن لتلاميذه ولبطرس انه يسبقكم إلى الجليل. هناك ترونه كما قال لكم. فخرجن سريعا وهربن من القبر لان الرعدة والحيرة أخذتاهنّ ولم يقلن لأحد شيئا لأنهنّ كنّ خائفات".
أي أنها، المجدلية، شاهدت مع بقية النسوة، كل ظواهر القيامة وإعلاناتها؛ فقد شاهدت الملاكين وإعلانهما قيامته والتكليف بتبليغ التلاميذ خبر القيامة.
ثم يكمل القديس مرقس: " وبعدما قام باكرا في أول الأسبوع ظهر أولا لمريم المجدلية التي كان قد اخرج منها سبعة شياطين. فذهبت هذه وأخبرت الذين كانوا معه وهم ينوحون ويبكون" (مر16 :1-9)
وهنا يعلن أنها أول من شاهد المسيح بعد قيامته، وأنها هي التي بشرت التلاميذ والرسل بهذا الخبر السار، مع ذكر أنها التي أخراج الرب منها سبعة شياطين، أي أنها كانت معروفة بذلك وسطهم، ولو كان هناك أي فكر غير ذلك، مثل الزواج مثلًا، لكان قد أُعلن.
(4) أما الإنجيل للقديس يوحنا فيشرح حادثة ظهور المسيح للمجدلية بالتفصيل: " وفي أول الأسبوع جاءت مريم المجدلية إلى القبر باكرا والظلام باق فنظرت الحجر مرفوعا عن القبر. فركضت وجاءت إلى سمعان بطرس والى التلميذ الآخر الذي كان يسوع يحبه وقالت لهما اخذوا السيد من القبر ولسنا نعلم أين وضعوه. فخرج بطرس والتلميذ الآخر وأتيا إلى القبر. وكان الاثنان يركضان معا. فسبق التلميذ الآخر بطرس وجاء أولًا إلى القبر وانحنى فنظر الأكفان موضوعة ولكنه لم يدخل. ثم جاء سمعان بطرس يتبعه ودخل القبر ونظر الأكفان موضوعة والمنديل الذي كان على رأسه ليس موضوعا مع الأكفان بل ملفوفا في موضع وحده. فحينئذ دخل أيضا التلميذ الآخر الذي جاء أولا إلى القبر ورأى فآمن. لأنهم لم يكونوا بعد يعرفون الكتاب انه ينبغي أن يقوم من الأموات. فمضى التلميذان أيضا إلى موضعهما أما مريم فكانت واقفة عند القبر خارجا تبكي. وفيما هي تبكي انحنت إلى القبر فنظرت ملاكين بثياب بيض جالسين واحدا عند الرأس والآخر عند الرجلين حيث كان جسد يسوع موضوعا. فقالا لها يا امرأة لماذا تبكين. قالت لهما أنهم اخذوا سيدي ولست اعلم أين وضعوه. ولما قالت هذا التفتت إلى الوراء فنظرت يسوع واقفا ولم تعلم انه يسوع. قال لها يسوع يا امرأة لماذا تبكين. من تطلبين. فظنت تلك انه البستاني فقالت له يا سيد أن كنت أنت قد حملته فقل لي أين وضعته وأنا آخذه. قال لها يسوع يا مريم. فالتفتت تلك وقالت له ربوني الذي تفسيره يا معلّم. قال لها يسوع لا تلمسيني لأني لم اصعد بعد إلى أبي. ولكن اذهبي إلى أخوتي وقولي لهم أني اصعد إلى أبي وأبيكم والهي وإلهكم. فجاءت مريم المجدلية وأخبرت التلاميذ أنها رأت الرب وانه قال لها هذا" (يو20:1-18).
وبرغم أن القديس يوحنا ركز على المجدلية وحدها، هنا، إلا أنه أشار بشكل غير مباشر إلى أنها لم تذهب إلى القبر وحدها، وذلك في قولها: " اخذوا السيد من القبر ولسنا نعلم أين وضعوه "، فهي تتكلم بصيغة الجمع " لسنا نعلم "، ولكن ذلك لا يقلل من قيمة أنه ظهر لها وحدها أولًا وطلب منها أن تبشر بقية الرسل بذلك، فصارت "رسولة للرسل". وفي كل الأحوال لا يوجد في نص الآيات ما يفيد غير أنها كانت إحدى تلميذات المسيح المقربات، وأنها كانت تمتلك المال لتصرف منه على خدمته مثلها في ذلك مثل امرأة خوزي والأخريات، إلى جانب تعلقها الشديد به لأنه أخرج منها سبعة شياطين، ولم يجعل منها مجرد إنسانة سوية فقط، بل إحدى تلميذاته اللواتي كن يخدمنه من أموالهن. كما تذكر دائمًا رقم واحد عند ذكر أسماء النسوة اللواتي كن يتبعنه ومن ضمنهن مريم أخت أمه، أم يعقوب أخو الرب، وسالومة أم يوحنا تلميذه الحبيب وأخيه يعقوب أبني زبدي.
مريم المجدلية في الكتب الأبوكريفية :
وعلى عكس الفكر الذي قال أن مريم هي نفسها المرأة الخاطئة، والذي تبرأ منه الفاتيكان مؤخرًا، فقد كانت المجدلية بالنسبة للفكر الأرثوذكسي، كما وصفها العلامة هيبوليتوس "رسولة للرسل"، في اللاتينية "Apostola Apostolorum"، لأن الرب يسوع المسيح طلب منها، بعد قيامته، أن تخبر تلاميذ المسيح ورسله بهذا الخبر السار وهو قيامته، كما بينّا أعلاه، فقد كانت هي أول شاهد عيان للقيامة. هذا الوصف الذي وصفت به المجدلية تضخم في الفكر الغنوسي فتحولت من مبشرة بقيامة المخلص في وسط دائرة محلية هي التلاميذ والرسل إلى مبشرة ورسولة بهذا الخبر السار للعالم بمعناه الواسع.
وبناء على ذلك كتب الغنوسيين كتبًا، فيما بين 150 و450 م.، أسموها أناجيل ورؤى وأعمال نسبوها للرسل، من ضمنها ما سمي بالإنجيل بحسب مريم المجدلية، وتحولت من مبشرة إلى رائية للرؤى الإلهية ومحاورة للمخلص وحافظة لأسراره الروحية، بل ويقول هذا الكتاب الأبوكريفي؛ أنه كان يكشف لها ما لم يكشفه لغيرها من التلاميذ والرسل. وفيما يلي بعض ما جاء عنها في الكتب الأبوكريفية الغنوسية:
(1) الإنجيل حسب رواية مريم المجدلية :
هذا الكتاب، الذي كتب فيما بين نهاية القرن الثاني وبداية الثالث، يصور المجدلية في صورة التلميذة المحبوبة من المخلص أكثر من غيرها، بل الأكثر شجاعة من التلاميذ والرسل جميعًا! والأكثر إدراكًا وحفظًا لكلامه، والتي سمعت منه ما لم يسمعه تلاميذه الآخرون من أسرار ملكوت الله، والرائية التي رأت المخلص في عالم النور والروحيات والسماويات، بل والأكثر ثقة وشجاعة من كل التلاميذ والرسل! ويزعم أنه بعد أن أمر المخلص تلاميذه بالكرازة في العالم أجمع حزنوا وبكوا!! فشجعتهم وطمأنتهم وشرحت لهم ما لم يشرحه المخلص لغيرها:
" (1) لكنهم حزنوا. وبكوا بكاءً شديدا, قائلين كيف نذهب لغير اليهود ونبشر بإنجيل الملكوت بابن الإنسان؟ فإن لم يحفظوه كيف سيحفظوننا؟ (2) ثم وقفت مريم, وحيتهم جميعا. وقالت لإخوتها, لا تبكوا ولا تحزنوا ولا تتحيروا, لأن نعمته ستكون معكم بالكامل وستحميكم. (3) لكن بالحري, دعونا نمجد عظمته, لأنه أعدنا وجعلنا للناس. (4) وحين قالت مريم هذا. شعروا بالطمأنينة في قلوبهم, وبدأوا بمناقشة كلمات المخلص.(5) قال بطرس لمريم, أختاه نعلم أن المخلص احبك أكثر من أي امرأة أخرى. (6) قولي لنا كلمات المخلص التي تذكرينها وتعرفينها, ولم نسمعها من قبل. (7) أجابت مريم وقالت, ما هو مخفي عليكم سأطالب به من أجلكم. (8) وبدأت تقول لهم هذه الكلمات: أنا, رأيت الرب في رؤيا وقلت له، يا رب لقد رأيتك اليوم في رؤيا, فرد قائلا لي، (9) مباركة أنت لأنك لم ترتعشي لرؤيتي. لأنه حيث يكون العقل يكون الكنز .(10) قلت له, يا رب, كيف يرى الرؤيا من يراها, من خلال الروح أم من خلال النفس؟ (11) أجاب المخلص وقال، لا ترى من خلال الروح أو النفس, ولكن العقل الذي بين الاثنين هو الذي يرى الرؤيا وهي.
وفي فقرة أخرى يقول:".. هو.(10) والرغبة قالت, لم أراك تهبط, لكن الآن أراك تصعد. لماذا تكذب طالما أنت ملكي؟(11) أجابت الروح وقالت. أنا رأيتك ولم تريني ولا تعرفني علي. كنت كثوبك ولم تعرفيني.(12) حين قالت هذا, ذهبت " الروح " بعيدا بابتهاج شديد.(13) وثانية جاءت للقوة الثالثة, المسماة الجهل.(14) وسألت القوة الروح, قائلة, إلى أين أنت ذاهبة؟ بالشر مقيدة. ولكنك مقيدة لا تحكمي. (15) وقالت الروح. لماذا تحاكمينني, مع أني لم أحاكم؟ (16) كنت مقيدة, رغم أني لم أكن مقيدة. (17) لم يتم التعرف علي، ولكن عرفت أن الكل سيتلاشى. الأرضيات والسماويات معًا. (18) حين قهرت الروح القوة الثالثة، ذهبت للأعلى ورأت القوة الأربعة، التي أخذت سبعة أشكال. (19) الشكل الأول هو الظلام، الثاني هو الرغبة، الثالث هو الجهل، الرابع هو إثارة الموت، الخامس هو مملكة الجسد، السادس هي حماقة حكمة مملكة الجسد، السابع هي الحكمة الرعناء. هذه هي القوى السبع للغيظ."
ويركز الكاتب في هذه الفقرة على سبع خطايا مميتة، من الوجهة الغنوسية، هي؛ (1) " الجهل" و(2) " الظلام " و(3) " الرغبة " و(4) " إثارة الموت" و(5) " مملكة الجسد " و(6) " حماقة مملكة الجسد " و(7) " الحكمة الرعناء". وهو تعليم غنوسي صوفي يعلي من قيمة المعرفة والتعفف وقهر الجسد.
كما يبدو أن الكاتب قصد بالأشكال السبعة للخطايا الإشارة إلى الشياطين السبعة التي أخرجها منها الرب يسوع كما ذكرت الأناجيل القانونية الموحى بها.
ثم يتحول الكتاب لتصوير أندراوس وبطرس، وبصفة خاصة بطرس، وكأنه لم يصدق إمكانية أن يكشف المخلص مثل هذه الأمور والأسرار الروحية لامرأة، فيتصدى له لاوي، والذي بحسب الإنجيل للقديس مرقس هو القديس متى الإنجيلي (مر2 :14)، مؤكدًا أن تمييز المخلص وحبه لها جاء نتيجة معرفته لها، باعتباره المخلص السمائي، كاشف الأسرار، كما يبدو في نصوص هذا الكتاب الأبوكريفي، وإذا كان المخلص أراد ذلك فمن يعرف أكثر منه أو يرده:
(1) حين قالت مريم هذا، صمتت، لأن الكلام كان حتى هذه اللحظة كلام المخلص معها. (2) لكن (أندراوس) أجاب قائلًا للأخوة، قولوا ما تودون قوله عما قالته. فأنا أولًا وأخرًا لا أصدق أن المخلص قال هذا. ومن المؤكد أن هذه التعاليم أفكار غريبة. (3) أجاب بطرس متحدثًا بخصوص هذه الأمور. (4) وسألهم عن المخلص: هل حقًا تحدث مع امرأة وحيدين وليس علنًا أمامنا؟ هل سنستمع لها جميعًا؟ هل فضلها علينا؟ (5) فبكت مريم وقالت لبطرس، أخي بطرس ماذا تظن؟ هل تظن أنني ابتدعت هذا من تلقاء نفسي ومن قلبي، أو أنني أكذب فيما يختص بالمخلص؟ (6) أجاب لاوي قائلًا لبطرس: " بطرس أنت دائمًا سريع الغضب". (7) الآن أراك تنافس المرأة كعدو. (8) لكن إذا كان المخلص قد جعلها ذات قيمة، فمن أنت إذا حتى ترفضها؟ بالطبع فأن المخلص يعرفها بشكل جيد.(9) ولهذا أحبها أكثر منا. فبالحري يجب أن نخجل ونختار الرجل المناسب، ونفترق كما أمرنا وأن نبشر بالإنجيل، دون أن نضع شروطًا لم يضعها المخلص.(10) وحين سمعوا هذا بدأوا بالابتعاد للكرازة والتبشير".
وهنا نص قاطع وهو ما نسب لبطرس أنه قال: "هل حقًا تحدث مع امرأة وحيدين وليس علنًا أمامنا؟"!! وهذا القول يؤكد بشكل قاطع أن المجدلية كانت بالنسبة لبطرس واليهود، في عصر كتابة هذا الكتاب الأبوكريفي، أجنبية، وبحسب الفكر اليهودي، كانت محرمة بالنسبة لهم، فهو ليس من محارمها، فهو ليس أبيها ولا أخاها ولا زوجها، بل أجنبية بالنسبة له!! وهذا له ما يشبهه في الإنجيل للقديس يوحنا، عندما رأي التلاميذ أن الرب يتكلم مع المرأة السامرية على البئر وحدهما، يقول الكتاب: " وكانوا يتعجبون أنه يتكلم مع امرأة. ولكن لم يقل احد ماذا تطلب أو لماذا تتكلم معها" (يو4 :27).
وهذا يكذب فكر الكاتب ومن تبعه في ذلك بشكل مطلق، لأنها لو كانت زوجته كما زعمت الأساطير والأفكار الملفقة، لما أستغرب أحد لحديثه معها وهما وحدهما دون أن يكون معهما مِحِرم، أو أي إنسان آخر؟!!
(2) إنجيل توما :
وفي هذا الكتاب يرد النص التالي والذي يؤكد الفكر الغنوسي الذي يعتقد بالخلاص عن طريق المعرفة، معرفة الإنسان لنفسه، في جوهرها الروحي، ومعرفة الإله السامي عن طريق المسيح المنبثق منه، المولود منه، كنور من نور، والذي يدعو للنسك والتعفف عن العلاقات الزواجية، ويرى خلاص المجدلية في أن تكون روحًا حيًا يشبه الذكور، فيقول:
" قال سمعان بطرس لهم: " لترحل مريم عنا لان النساء لا تستحق الحياة". فقال يسوع: " أنا سوف أقودها لأجعلها ذكرا حتى تصبح هي أيضا روحا حيا يشبهكم أيها الذكور، لأن كل امرأة تجعل نفسها ذكرا ستدخل ملكوت السموات".
(3) الإنجيل بحسب فيليب :
وفي هذا الكتاب الأبوكريفي وردت الفقرة التالية التي تقترب كثيرا مما جاء في الإنجيل القانوني الموحى به، والتي تصور مريم العذراء ومريم أم يعقوب ومريم المجدلية في مصاحبة الرب باستمرار، فيقول:
" (1) كان هناك ثلاثة يسيرون دائما مع الرب: مريم، أمه وأختها والمجدلية والتي كانت تدعى مرافقته. (2) أمه وأختها ومرافقته كن يدعون مريم".
وهذا يشبه ما جاء في الإنجيل للقديس يوحنا: " وكانت واقفات عند صليب يسوع أمه وأخت أمه مريم زوجة كلوبا ومريم المجدلية" (يو19 :25).
وقد شرحنا كلمة مرافقته أو رفيقته في السابق.
وفي القفرة التالية والتي استعان بها دان بروان، وبعض الذين تعلقوا بفكره لأنه يناسب فكرهم وعقيدتهم من جهة شخص المسيح، والذين حذفوا الفقرة الأولى منها لأنها تقلب الموضوع رأسا على عقب، ففضلا عما أوضحناه في الفصل السابق نضيف هنا، أنه يصف المجدلية، إذا لم نضع في الاعتبار الفراغ [.. ] الناتج من تلف المخطوطة المنقول عنها، بأنها الحكمة العاقر أو العقيمة، والتي يصفها بشكل صوفي كأم الملائكة، ويقول أنها رفيقته، ثم يليها فراغ [.. ]، ثم يذكر مريم المجدلية، يليها فراغ [.. ]، ثم يتكلم عن حب المسيح لها، وحبه لمن كانت بهذه الصفات الروحية، وهو نفسه، حسب أوصاف نفس الكتاب الأبوكريفي، إنجيل فيليب، روح ونور، لابد وأن يكون حبًا روحانيًا، وقبلاته فيه لها مغزاها الروحي:
" أما عن الحكمة والتي تدعى " العاقر " فهي أم الملائكة ورفيقة الـ[.. ] مريم المجدلية [.. ] أحبها أكثر من كل التلاميذ واعتاد أن يقبلها في معظم الأحيان في [.. ]. بقية التلاميذ [.. ] وقالوا له،" لماذا تحبها أكثر منا؟
فأجاب المخلص وقال لهم: لماذا أنا لا أحبكم مثلها؟ عندما يكون رجل أعمى وآخر مبصر كليهما معًا في الظلمة، فلا يختلف أحدهما عن الآخر، وعندما يأتي النور فالمبصر يرى النور والأعمى يظل في الظلمة".
وهو يصفها، هنا، بالمبصر الذي يرى في النور. والأجزاء التي بين الأقواس هي أجزاء تالفة في المخطوطة ولا تظهر الكلمات التي كانت مكتوبة فيها تُركت عملية تكملتها لاجتهاد العلماء.
(4) حكمة الإيمان (Pistis Sophia) :
وفي هذا الكتاب نجد تقارب كبير بين المجدلية والقديسة مريم العذراء من جهة البركة ووصف كليهما بالمباركة بركة تفوق الجميع، كما يتكون نص الكتاب كله من حوارات بين المخلص ومريم العذراء ومريم المجدلية يتعذر علينا، في أغلب الأحيان، أن نميز أن كانت المتكلمة أو المستمعة للمخلص هي مريم العذراء أم المجدلية. والكتاب كله حوارات وأحاديث روحية صوفية تتركز على عالم النور والروحيات، هذا العالم الذي يركز على الروح وعالم الروح وخلاصه من الجسد. ونختار الفقرة التالية التي يمكن أن نميز فيها اسم المجدلية بسهولة:
" وصية السر الأول، أنا نظرت ثانية إلى عالم الجنس البشري، ووجدت مريم، تقدمت وأعطيت تفسيراتهم. " مريم، أم يسوع، جاءت متقدمة، أجابت هي، بل يسوع وقال: " أنت أيضا مريم، أنت تسلمت من الذين هم متقدين وأعطيتي تفسيراتهم". فتقدمت مريم أم يسوع، وأجابت هي، بل يسوع: " أنت أيضًا مريم، أنت تسلمت من التي هي عذراء النور بحسب النور، أنت ومريم الأخرى [ المجدلية ] المباركة".
(5) إنجيل بطرس :
أما هذا الكتاب، الذي كتب في القرن الثاني، كما يبدو واضحا أنه مكون من الأناجيل القانونية الأربعة الموحى بها، فهو أكثر مماثلة بها ولكنه يقدم الحدث بصورة غنوسية دوسيتية خيالية ويضيف تفاصيل كثيرة، ويعلن صراحة أن مريم كانت تلميذة للرب، ويصور ذهابها للقبر للبكاء وسكب الطيب على قبره:
" وباكرًا في صباح يوم الرب ذهبت مريم المجدلية وهى تلميذه للرب. خوفًا من اليهود لأنهم كانوا متقدين بالغضب، ولأنها لم تفعل عند قبر الرب ما كانت النساء تريد أن يعملنه للموتى الذين يحبونهم وأخذت معها صديقاتها وجئن إلى القبر حيث وضع، 52 وخفن أن يراهن اليهود وقلن: على الرغم من أننا لم نستطع أن نبكى وننوح في اليوم الذي صلب فيه، فلنفعل ذلك الآن على قبره. 53 ولكن من سيدحرج لنا الحجر الذي وُضع على باب القبر، إذ يجب أن ندخل ونجلس بجانبه ونفعل ما يجب ؟ 54 لأن الحجر كان عظيمًا. ونخشى أن يرانا أحد. وإذا لم نستطع أن نفعل ذلك، دعونا على الأقل أن نضع على بابه ما أحضرناه لذكراه ولنبك وننوح حتى نعود إلى البيت ثانيه".
ولا يوجد في النص ما يشير إلا إلى تلميذه حزينة على فقدان معلمها ومخلصها وشافي أمراضها.
5 – إنجيل مركيون (إنجيل الرب) :
كان مركيون يعتقد بوجود إلهين الإله السامي غير المدرك وغير المعروف وإله اليهود الذي خلق العالم، وأن يسوع المسيح هو ابن الإله السامي وقد نزل من السماء ليخلص العالم من أعمال إله اليهود، الخالق، ويكشف للعالم عن حقيقة الإله السامي، الآب، ومن ثم فقد رفض العهد القديم وقبل 10 من رسائل القديس بولس، وحذف منها كل ما يختص بالعهد القديم، كما قبل الإنجيل للقديس لوقا فقط، ولكنه عدله بحسب فكره وحذف منه كل ما يختص بميلاد المسيح، وكل ما يشير للعهد القديم، وقال بنزول المسيح من السماء مباشرة في جسد شبحي، شبه جسد، ولذلك جاء كتابه، إنجيل مركيون، عبارة عن نسخة معدلة ومبتورة من الإنجيل للقديس لوقا. وفيما يلي نقتبس الفقرة التالية عن مريم المجدلية، والتي يضيف فيها شفاءها من ضعفات وأرواح شريرة:
" وكان يسير في كل مدينة وقرية يكرز ويعلن ملكوت الله كالأخبار السارة، وكان الاثنا عشر معه وامرأة شفاها من أرواح شريرة وضعفات، مريم التي تدعى المجدلية التي خرج منها سبعة شياطين".
والخلاصة التي نصل إليها هنا هي، أن ما جاء بالكتب الأبوكريفية يتفق مع بعض ما جاء في أسفار العهد الجديد القانونية، الموحى بها، ويختلف عنها في تصويره للمجدلية كرسولة للعالم ورائية ترى رؤى سماوية، وقريبة من فكر المسيح الروحاني النوراني، ومثيلة للعذراء القديسة مريم في القداسة، وأن المخلص جعلها كالذكر روحيًا لكي تدخل الملكوت.
وهذا لا يفيد دان براون ولا غيره في أثبات أن المسيح قد تزوج وأنجب نسلًا، لأن ثمر الروح هو روح، وثمر الجسد هو جسد. وهذه الكتب تتكلم عن كائن روحاني نوراني من عالم النور والأرواح والكائنات النورانية الذي فيه " لا يزوجون ولا يتزوجون بل يكونون كملائكة الله في السماء" (مت22: 30)
ونختم هذا بما قاله الروح بفم القديس بولس: " لأن من من الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه. هكذا أيضا أمور الله لا يعرفها احد إلا روح الله. ونحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من الله لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله التي نتكلم بها أيضا لا بأقوال تعلّمها حكمة إنسانية بل بما يعلّمه الروح القدس قارنين الروحيات بالروحيات. ولكن الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله لأنه عنده جهالة. ولا يقدر أن يعرفه لأنه أنما يحكم فيه روحيا. وأما الروحي فيحكم في كل شيء وهو لا يحكم فيه من احد. لأنه من عرف فكر الرب فيعلمه. وأما نحن فلنا فكر المسيح" (1كو2: 11-16).
نأتي لموضوع آخر : هل المسيح تزوج خمس عذارى ؟
الخمس عذاري الحكيمات هو من الامثال التي كان يتحدث بها المسيح لتقريب المفهوم للناس ، هيا بنا نقرأ المثل بالكامل من الانجيل :
«حِينَئِذٍ يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ عَشْرَ عَذَارَى، أَخَذْنَ مَصَابِيحَهُنَّ وَخَرَجْنَ لِلِقَاءِ الْعَرِيسِ. وَكَانَ خَمْسٌ مِنْهُنَّ حَكِيمَاتٍ، وَخَمْسٌ جَاهِلاَتٍ. أَمَّا الْجَاهِلاَتُ فَأَخَذْنَ مَصَابِيحَهُنَّ وَلَمْ يَأْخُذْنَ مَعَهُنَّ زَيْتًا، وَأَمَّا الْحَكِيمَاتُ فَأَخَذْنَ زَيْتًا فِي آنِيَتِهِنَّ مَعَ مَصَابِيحِهِنَّ. وَفِيمَا أَبْطَأَ الْعَرِيسُ نَعَسْنَ جَمِيعُهُنَّ وَنِمْنَ. فَفِي نِصْفِ اللَّيْلِ صَارَ صُرَاخٌ: هُوَذَا الْعَرِيسُ مُقْبِلٌ، فَاخْرُجْنَ لِلِقَائِهِ! فَقَامَتْ جَمِيعُ أُولئِكَ الْعَذَارَى وَأَصْلَحْنَ مَصَابِيحَهُنَّ. فَقَالَتِ الْجَاهِلاَتُ لِلْحَكِيمَاتِ: أَعْطِينَنَا مِنْ زَيْتِكُنَّ فَإِنَّ مَصَابِيحَنَا تَنْطَفِئُ. فَأَجَابَتِ الْحَكِيمَاتُ قَائِلاتٍ: لَعَلَّهُ لاَ يَكْفِي لَنَا وَلَكُنَّ، بَلِ اذْهَبْنَ إِلَى الْبَاعَةِ وَابْتَعْنَ لَكُنَّ. وَفِيمَا هُنَّ ذَاهِبَاتٌ لِيَبْتَعْنَ جَاءَ الْعَرِيسُ، وَالْمُسْتَعِدَّاتُ دَخَلْنَ مَعَهُ إِلَى الْعُرْسِ، وَأُغْلِقَ الْبَابُ. أَخِيرًا جَاءَتْ بَقِيَّةُ الْعَذَارَى أَيْضًا قَائِلاَتٍ: يَا سَيِّدُ، يَا سَيِّدُ، افْتَحْ لَنَا! فَأَجَابَ وَقَالَ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُنَّ: إِنِّي مَا أَعْرِفُكُنَّ. فَاسْهَرُوا إِذًا لأَنَّكُمْ لاَ تَعْرِفُونَ الْيَوْمَ وَلاَ السَّاعَةَ الَّتِي يَأْتِي فِيهَا ابْنُ الإِنْسَانِ. (مت 25: 1-13)
الموضوع واضح جدا انه مثل من امثال السيد المسيح
ولكن حدث زواج المسيح لا يوجد من الاساس
في منتصف كل ليل يقرأ المؤمن هذا الفصل من الإنجيل في الخدمة الأولى من صلاة نصف الليل، ليتعرّف على سرّ وقوفه للصلاة ألا وهو انتظار العريس، مهتمّا أن يكون كإحدى العذارى الحكيمات اللواتي يدخلن العرس الأبدي. إنه يقول: "ها هوذا الختن (العريس) يأتي في نصف الليل، طوبى للعبد الذي يجده مستيقظًا. أمّا الذي يجده متغافلًا، فإنه غير مستحق المُضيّ معه. فانظري يا نفسي لئلاّ تثقلي نومًا فتُلقي خارج الملكوت، بل اسهري واصرخي قائلة: قدّوس، قدّوس، قدّوس، أنت يا الله من أجل والدة الإله ارحمنا".
ليقف المؤمن في الحضرة الإلهيّة مشتاقًا أن يقدّم حواسه الخمس مقدّسة له، بكونها العذارى الحكيمات اللواتي أخذن زيتًا في آنيتهن مع مصابيح ينتظرن العريس. حقًا إن العذارى الحكيمات يقفن جنبًا إلى جنب مع الجاهلات، كلهُنّ عذارى ومعهُن مصابيحهِّن، كلهُن نعسْنَ ونِمن ، لكن الحكيمات يحملن زيتًا تفتقر إليه الجاهلات.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم في هذا الزيت إشارة إلى الأعمال الصالحة والمقدّسة التي تميّز الإيمان الحيّ من الميّت. فالمؤمن يقدّم بالروح القدس حواسه مقدّسة للعريس بالإيمان العامل بالمحبّة (غل 5: 6). يتقدّم للعريس حاملًا سماته عمليًا في كل أحاسيسه ومشاعره وتصرُّفاته. فإن أخذنا اللسان كمثال يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [عندما يكون لسانك كلِسان المسيح، ويصير فمك فم الآب وتكون هيكلًا للروح القدس، عندئذ أيّة كرامة تكون هذه؟! فإنه وإن كان فمك مصنوعًا من الذهب ومن الحجارة الكريمة فإنه لن يضيء هكذا كما بحُليّ الوداعة. أيّ شيء أكثر حبًا من الفم الذي لا يعرف أن يشتم، بل هو معتاد أن يبارِك وينطق بالكلمات الصالحة.]
أما الجاهلات فحملْنَ مصابيحهِّن لكنّهُن لم يستطعن أن يقتنين الزيت المقدّس أي الأعمال الصالحة بالرب، إنّما حملْنَ إيمانا ميّتًا وعبادات شكليّة، وإن ينتهي النهار حيث يمكن للإنسان أن يعمل يأتي الليل حيث لا مجال للعمل، ولا يمكن لأحد أن يستعير زيتًا من آخر فلا يقدرن أن يلتقين بالعريس، إذ يقول السيِّد: "وفيما هنَّ ذاهبات ليبتعْنَ جاء العريس والمستعدَّات دخلْن معه إلى العرس، وأُغلق الباب" . إنهُن لا يلتقين بالعريس كالحكيمات، بل يبقين في الخارج حيث الباب المُغلق. حقًا سيظهر ابن الإنسان على السحاب ويتحدّث مع الأشرار ليدينهم لكنهم لا ينعمون بمجده ولا يُدركون أسراره، إنّما يرونه كابن الإنسان المُرهِب، ينظرون عينيه تتّقِدان نارًا. بمعنى آخر يمكننا القول بأن المجد الذي ينعم به القدّيسون يصير بالنسبة للأشرار موضوع خوف ورِعدة، فلا يرون في السيِّد أمجادًا بل رعبًا!
أما الحكيمات فإذ قلوبهِّن، أي عيونِهِّن الداخليّة، نقيّة يعاينَّ الله ويتمتّعنَ ببهائه كقول السيِّد: "طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله" (مت 5: 8).
ما يحدث مع العذارى ليس بالأمر الجديد، إنّما هو اِمتداد لما مارسوه على الأرض، فإن الحكيمات يتمتّعن بالحياة الداخليّة الجديدة كحياة شركة واتّحاد مع العريس مارسوه على الأرض. أمّا الجاهلات فلا خبرة لهُن بالعريس، وإنما يعشن حتى على الأرض خارج الأبواب، حتى وإن كان لهُن مظهر الحياة التعبّديّة بل والكرازيَّة. الذي اختار هنا أن يدخل مع المسيح ليحيا للملكوت فمن حقّه أن يعاينه في الأبديّة وجهًا لوجهٍ، والذي قبِل لنفسه أن يبقى هنا خارجًا فلن يقدر أن يُعاين السيِّد كعريس ولا يدخل معه عرسه الأبدي، بكونه بعيدًا عن الملكوت!
ليس عجيبًا أن يقول السيِّد "إني ما أعرفكن"، لأنهُنَّ لم يدخلْنَ معه في شركة حقيقيّة ولا عاين مجده في داخلهِنَّ!
يُعلّق القديس أغسطينوس على مثل العذارى الحكيمات والعذارى الجاهلات، قائلًا:
[من هنَّ العشر عذارى اللاتي منهُنَّ خمس حكيمات وخمس جاهلات...؟ هذا المثل أو هذا التشبيه لست أظن أنه ينطبق على أولئك النساء اللواتي يُدَّعينَ "عذارى" في الكنيسة من أجل قداستهِنَّ العظيمة، وإنما اعتقد أنه ينطبق على الكنيسة كلها... إنه لا ينطبق على الكهنة وحدهم الذين تحدّثنا عنهم بالأمس ولا على الشعب وحده وإنما على الكنيسة بأجمعها.
لماذا كان عدد كل منهُنَّ خمس...؟ كل روح في جسد تعُرف برقم خمسة، إذ تستخدم الحواس الخمس، فالجسد لا يدرك شيئًا إلا عن طريق المدخل ذي الخمسة أبواب: النظر والسمع والشم واللمس والتذوّق. فمن يضبط نفسه في النظر والسمع والتذوّق واللمس والشم بعيدًا عمَّا هو غير طاهر يحمل لقب "عذراء".
إن كان من الصالح أن يحفظ الإنسان حواسه عن المثيرات الدنسة، وبذا يصير لكل نفس مسيحيّة لقب "عذراء"، فماذا إذن خمس منهُنَّ مقبولات وخمس مرفوضات؟
إنه لا يكفي أن يكُنّ عذارى وأن يحملن مصابيح، فهنّ عذارى لحفظهن من ملذّات الحواس الدنسة، ولهن مصابيح لأجل أعمالهن الصالحة التي يقول عنها الرب "فليُضيء نوركم قدَّأم الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة، ويمجِّدوا أباكم الذي في السماوات" (مت 5: 16). مرّة أخرى يقول لتلاميذه: "لتكن أحقَّاؤكم ممنْطَقة وسُرُجِكم موقَدة" (لو 12: 35)، فبالأحقَّاء يعني البتولية والسُرُج الموقَدة يعني الأعمال الصالحة.
إن لقب "البتولية" عادة لا ينطبق على المتزوّجين، لكنّه هنا يعني بتولية الإيمان التي تمثِّل الطهارة المكلَّلة. لذلك لتعلموا يا أخوتي المقدَّسين أن كل إنسان وكل نفس لها الإيمان عديم الفساد الذي به تُمسِك عن الأشياء غير الطاهرة وبه تَصنع الأعمال الصالحة لا تُحسب خِلسَة أن تدعى عذراء، فكل الكنيسة التي يدخل في عضويَّتها عذارى وصبيان ومتزوِّجين ومتزوِّجات يطلق عليها لقب "عذراء"، كيف هذا؟ لتسمع قول الرسول عن الكنيسة عامة وليس عن النساء المتبتّلات وحدهُنَّ: "خطبتُكم لرجل واحد لأقدِّم عذراء عفيفة للمسيح" (2 كو 11: 2). ولأنه يجب الاحتراس من الشيطان مفسد الطهارة أردف الرسول قائلًا: "ولكنّني أخاف أنه كما خدعت الحيّة حواء بمكرها تُفسد أذهانكم عن البساطة التي في المسيح" (2 كو 11: 3). قليلون اقتنوا بتولية الجسد لكن يليق بالكل أن يقتنوا بتولية الروح. فإن كان التحفظ من الفساد أمرًا صالحًا لذلك تقبل النفس لقب البتولية، وإن كانت الأعمال الصالحة تستحق المديح وقد شُبِّهت بالمصابيح، فلماذا خمس منهُنَّ مقبولات وخمس مرفوضات...؟ وكيف نميِّز بين الاثنين؟
يميّز بينهُنَّ بالزيت؛ هذا الزيت هو شيء عظيم وعظيم جدًا، ألا وهو المحبّة... يقول الرسول: "وأيضًا أُريكم طريقًا أفضل: إن كنت أتكلّم بألسِنة الناس والملائكة ولكن ليس لي محبّة فقد صرتُ نحاسًا يَطِن أو صنجًا يَرِن" (1 كو 12: 31؛ 13: 1). هذه هي المحبّة، الطريق الأفضل، والتي شُبِّهت بالزيت، إذ يطفو على جميع السوائل. إن صبَبْت عليه ماءً يطفو الزيت....لأن "المحبّة لا تسقط أبدًا" (1 كو 13: 8).]
لقد حملت العذارى الحكيمات زيتًا هو المحبّة، لذلك حتى إن نِمنَ مع الجاهلات أي رقدْنَ في القبر (1تس4: 13) وإن أبطأ العريس في قدومه حيث تمر آلاف السنين من آدم إلى مجيئه، لكنّه في لحظة في طرفة عين عند البوق الأخير (1كو15: 52) إذ تسمع الحكيمات صوته يجدن الزيت معهُنَّ فيشعلن مصابيحهن، أمّا الجاهلات فيطلبن زيتًا ولا يجِدُن!
يرى القديس أغسطينوس: [أن هؤلاء الجاهلات يمثِّلْن النُسّاك الذين بسبب نسكهم صاروا عذارى، لكنهم كانوا يُرضون الناس لا الله؛ يحملون المصابيح ليمدحهم البشر، وليس لهم في داخلهم الزيت الذي يراه الله في القلب.]
بنفس الروح يحذّرنا القديس جيروم بقوله: [ربّما تُفقَد البتولية بمجرد فِكر. فالبتوليّون الأشرار هم البتوليّون بالجسد دون الروح، هؤلاء أغبياء ليس لهم زيت، لذا يطردهم العريس.]
وعندما انتهى المسيح من هذا المثل : مثل العذارى الحكيمات ، قال مثل آخر حتى يوضح المعنى وهو مثل الوزنات الخمس :
وَكَأَنَّمَا إِنْسَانٌ مُسَافِرٌ دَعَا عَبِيدَهُ وَسَلَّمَهُمْ أَمْوَالَهُ، فَأَعْطَى وَاحِدًا خَمْسَ وَزَنَاتٍ، وَآخَرَ وَزْنَتَيْنِ، وَآخَرَ وَزْنَةً. كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ. وَسَافَرَ لِلْوَقْتِ. فَمَضَى الَّذِي أَخَذَ الْخَمْسَ وَزَنَاتٍ وَتَاجَرَ بِهَا، فَرَبحَ خَمْسَ وَزَنَاتٍ أُخَرَ. وَهكَذَا الَّذِي أَخَذَ الْوَزْنَتَيْنِ، رَبِحَ أَيْضًا وَزْنَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ. وَأَمَّا الَّذِي أَخَذَ الْوَزْنَةَ فَمَضَى وَحَفَرَ فِي الأَرْضِ وَأَخْفَى فِضَّةَ سَيِّدِهِ. وَبَعْدَ زَمَانٍ طَوِيل أَتَى سَيِّدُ أُولئِكَ الْعَبِيدِ وَحَاسَبَهُمْ. فَجَاءَ الَّذِي أَخَذَ الْخَمْسَ وَزَنَاتٍ وَقَدَّمَ خَمْسَ وَزَنَاتٍ أُخَرَ قَائِلًا: يَا سَيِّدُ، خَمْسَ وَزَنَاتٍ سَلَّمْتَنِي. هُوَذَا خَمْسُ وَزَنَاتٍ أُخَرُ رَبِحْتُهَا فَوْقَهَا. فَقَالَ لَهُ سَيِّدُهُ: نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ وَالأَمِينُ! كُنْتَ أَمِينًا فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ. اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ. ثُمَّ جَاءَ الَّذِي أَخَذَ الْوَزْنَتَيْنِ وَقَالَ: يَا سَيِّدُ، وَزْنَتَيْنِ سَلَّمْتَنِي. هُوَذَا وَزْنَتَانِ أُخْرَيَانِ رَبِحْتُهُمَا فَوْقَهُمَا. قَالَ لَهُ سَيِّدُهُ: نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ الأَمِينُ! كُنْتَ أَمِينًا فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ. اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ. ثُمَّ جَاءَ أَيْضًا الَّذِي أَخَذَ الْوَزْنَةَ الْوَاحِدَةَ وَقَالَ: يَا سَيِّدُ، عَرَفْتُ أَنَّكَ إِنْسَانٌ قَاسٍ، تَحْصُدُ حَيْثُ لَمْ تَزْرَعْ، وَتَجْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَمْ تَبْذُرْ. فَخِفْتُ وَمَضَيْتُ وَأَخْفَيْتُ وَزْنَتَكَ فِي الأَرْضِ. هُوَذَا الَّذِي لَكَ. فَأَجَابَ سَيِّدُهُ وَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْعَبْدُ الشِّرِّيرُ وَالْكَسْلاَنُ، عَرَفْتَ أَنِّي أَحْصُدُ حَيْثُ لَمْ أَزْرَعْ، وَأَجْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَمْ أَبْذُرْ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَضَعَ فِضَّتِي عِنْدَ الصَّيَارِفَةِ، فَعِنْدَ مَجِيئِي كُنْتُ آخُذُ الَّذِي لِي مَعَ رِبًا. فَخُذُوا مِنْهُ الْوَزْنَةَ وَأَعْطُوهَا لِلَّذِي لَهُ الْعَشْرُ وَزَنَاتٍ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ يُعْطَى فَيَزْدَادُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي عِنْدَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ. وَالْعَبْدُ الْبَطَّالُ اطْرَحُوهُ إِلَى الظُّلْمَةِ الْخَارِجِيَّةِ، هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ. «وَمَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ مَعَهُ، فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ. وَيَجْتَمِعُ أَمَامَهُ جَمِيعُ الشُّعُوبِ، فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا يُمَيِّزُ الرَّاعِي الْخِرَافَ مِنَ الْجِدَاءِ، فَيُقِيمُ الْخِرَافَ عَنْ يَمِينِهِ وَالْجِدَاءَ عَنِ الْيَسَارِ. ثُمَّ يَقُولُ الْمَلِكُ لِلَّذِينَ عَنْ يَمِينِهِ: تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ. لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيبًا فَآوَيْتُمُونِي. عُرْيَانًا فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضًا فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوسًا فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ. فَيُجِيبُهُ الأَبْرَارُ حِينَئِذٍ قَائِلِينَ: يَا رَبُّ، مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعًا فَأَطْعَمْنَاكَ، أَوْ عَطْشَانًا فَسَقَيْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ غَرِيبًا فَآوَيْنَاكَ، أَوْ عُرْيَانًا فَكَسَوْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ مَرِيضًا أَوْ مَحْبُوسًا فَأَتَيْنَا إِلَيْكَ؟ فَيُجِيبُ الْمَلِكُ وَيَقوُل لَهُمْ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ، فَبِي فَعَلْتُمْ. «ثُمَّ يَقُولُ أَيْضًا لِلَّذِينَ عَنِ الْيَسَارِ: اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلاَعِينُ إِلَى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ الْمُعَدَّةِ لإِبْلِيسَ وَمَلاَئِكَتِهِ، لأَنِّي جُعْتُ فَلَمْ تُطْعِمُونِي. عَطِشْتُ فَلَمْ تَسْقُونِي. كُنْتُ غَرِيبًا فَلَمْ تَأْوُونِي. عُرْيَانًا فَلَمْ تَكْسُونِي. مَرِيضًا وَمَحْبُوسًا فَلَمْ تَزُورُونِي. حِينَئِذٍ يُجِيبُونَهُ هُمْ أَيْضًا قَائِلِينَ: يَا رَبُّ، مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعًا أَوْ عَطْشَانًا أَوْ غَرِيبًا أَوْ عُرْيَانًا أَوْ مَرِيضًا أَوْ مَحْبُوسًا وَلَمْ نَخْدِمْكَ؟ فَيُجِيبُهُمْ قِائِلًا: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ لَمْ تَفْعَلُوهُ بِأَحَدِ هؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ، فَبِي لَمْ تَفْعَلُوا. فَيَمْضِي هؤُلاَءِ إِلَى عَذَابٍ أَبَدِيٍّ وَالأَبْرَارُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ» (مت 25 )
تفسير المثل :
أ. في هذا المثل يقدّم السيِّد لعبيده أموالًا، يعطي لواحد خمس وزنات، ولآخر وزنتين، ولثالث وزنة، كل واحدٍ قدر طاقته [14-15]. إنه لا يبخل على أحدٍ بعطاياه، ولا يُحابي أحدًا على حساب آخر، لكنّه يعرف كيف يوزِّع لكل قدر طاقته. فما قدّمه الله لنا من مواهب لم يقدّمها اعتباطًا، وإنما يعرف ما يناسب كل عضو لخلاصه. هذا يدفعنا ألا نتكبَّر على أصحاب المواهب الأقل ولا نحسِد أصحاب المواهب الأكثر، إنّما نشكر واهب المواهب... يكفي أنها من يديه. يقول الرسول: "أنواع مواهب موجودة ولكن الروح واحد، وأنواع خِدَم موجودة ولكن الرب واحد، وأنواع أعمال موجودة ولكن الله واحد" (1 كو 12: 4-6).
في حديث للقدّيس أغسطينوس مع شعبه يؤكّد لهم أن للكل وزنات قُدّمت لهم من قِبَل الله، إذ يقول لهم: [لا تظنّوا أن هذا العمل الخاص باستخدام الوزنات لا يخصّكم أنتم أيضًا. حقًا لا تستطيعون العمل من هذا الكرسي (الأسقفي) لكنكم تستطيعون ممارسته قدر ما تتاح لكم الفرصة. أينما هُوجم المسيح دافعوا عنه، أجيبوا على المتذمِّرين، انتهروا المجدِّفين وابتعدوا عن مصادقتهم... قوموا بأعباء وظيفتكم في منازلكم. فالأسقف يُدعى هكذا لأنه يَسُوس الآخرين، ويهتمّ بهم وينصت إليهم. إذن فكل إنسان مادام هو رأس منزله فليعمل عمل الأسقف مهتمّا بإيمان بيته حتى لا يسقط أحدهم في هرطقة: لا زوجة ولا ابن ولا ابنة ولا عبد له، لأنهم قد اُشتروا بثمن هذا مقداره... لا تُهمل أصغر هؤلاء الذين ينتمون إليك بل اِهتم بخلاص كل أهل بيتك بكل سهر؛ فإن فعلتم هذا تكونون قد استخدمتم الوزنة ولا تُحسَبون عبيدًا كسالى ولا تخافون العقاب المرعب.]
ب. لا ينتظر الله الربح في ذاته، ولا يهتم بكميَّته، إنّما يهتم بأمانة عبيده أو إهمالهم. فما اقتناه العبدان أصحاب الخمس وزنات والوزنتين هو "الأمانة في الوكالة"، فتأهّلا أن يُقاما على الكثير، أمّا أصحاب الوزنة الواحدة فمشكلته إهماله، إذ أخفي الوزنة وعاش عاطلًا.
ج. الربح يجلب ربحًا، والخسارة تجلب خسارة، والخطيّة تلد خطيّة، فصاحب الخمس وزنات إذ ربح خمس وزنات أقيم على الكثير بدخوله إلى فرح سيّده، أمّا صاحب الوزنة فإنه إذ أهمل وعاش عاطلًا ليس فقط لم يربح وزنة أخرى، وإنما خسر الوزنة التي لديه، وسقط في خطيّة أخرى وهي اتّهام سيّده بالقسوة والظلم، إذ يقول له: "يا سيّد، عرفت أنك إنسان قاسِ تحصد حيث لم تزرع، وتجمع من حيث لم تبذر، فخفت ومضيت وأخفيت وزنتك في الأرض" [24-25]. حياة الكسل والبّطالة دفعته لاتّهام سيّده بالقسوة، وهذا بالتالي دفعه للخوف... كل خطيّة تسلّمه إلى خطيّة وكما يقول الأب يوحنا من كرونستادت: [كل خطيّة تبدو بسيطة وغير هامة تقود إلى خطايا أخطر، لذا يجب مقاومتها في بدايتها وسحقها.]
ولعلّ أهم الخطايا التي تبدو هيّنة لكنها محطِّمة هي التهاون أو الكسل، وكما يقول القديس كيرلس الكبير: [إذ يعرف بولس أن الكسل هو باب الهلاك يقول: "ويل لي إن كنت لا أبشر" (1 كو 9: 16).]
د. حينما بدأ السيِّد بإدانة عبيده أو محاسبتهم بدأ بأصحاب الخمس وزنات فالوزنتين ثم الوزنة. كلما كثرت المواهب كلما كانت دينونتنا تسبق الآخرين ونُطالَب بأكثر.
هـ. المكافأة هي "اُدخل إلى فرح سيّدك" [21]، هي دخول إلى العرس الأبدي ليبقى في الداخل، أمّا الجزاء فهو "اِطرحوه إلى الظلمة الخارجيّة" [30]، أي عدم التمتّع برؤية الله النور الحقيقي، وإنما البقاء خارجًا في الظلمة. الذين يدخلون يوجَدون في الداخل حيث لا يمكن إخراجهم خارجًا، وعلى العكس الذين هم في الخارج لا يقدرون على التمتّع بالداخل.
يتحدّث القديس أغسطينوس على هذا الفرح الداخلي أثناء تعليقه على عبارة السيِّد: "كل ما يعطيني الأب فإليّ يقبل، ومن يقبل إليّ لا أخرجه خارجًا" (يو 6: 37). [أيّ نوع من الداخل هذا الذي لا يخرجون منه خارجًا؟ إنه حياة داخليّة ممتازة، مأوى حلو! يا له من مسكن خفي بلا قلاقل بغير مرارة الأفكار الشرّيرة، وبدون إغراءات الشهوات وفساد الأحزان! أليس هذا هو الموضع السرّي الذي يدخله العبد المستحق، الذي يقول له الرب: "اُدخل إلى فرح سيّدك".]
يتحدّث الأب يوحنا من كرونستادت عن هذا الفرح الأبدي السماوي كاِمتداد طبيعي لحياتنا الروحيّة السماويّة التي نعيشها هنا على الأرض، إذ يقول: [خدمتنا الأرضيّة المتنوّعة لمَلِكنا ووطننا هي صورة لخدمتنا الرئيسيَّة لمَلِكنا السماوي، هذه التي يجب أن تستمر أبديًا، هذا الذي يلزمنا أن نخدمه بحقٍ قبل الكل... الخدمة الأرضيّة هي محك وخدمة بدائية للخدمة السماويّة.]
يرمز صاحب الوزنات الخمس للمؤمن الذي يقدّم حواسه الخمس مقدّسة لعريسه السماوي، معلنًا عمل روح الله القدّوس في جسده كما في نفسه ليكون بكلّيته للرب السماوي. بمعنى آخر، يُشير إلى الإنسان الذي يضرم فيه مواهبه لله خلال أبواب حواسه الخمسة.
أما صاحب الوزنتين فيرمز إلى المؤمن الذي امتلأ قلبه بمحبّة أخيه في الرب، إذ يصير الاثنان واحدًا في الرب. ولهذا السبب نجد السامري الصالح يقدّم دِرهمين لصاحب الفندق علامة محبّته للجريح، والأرملة التي امتدحها السيِّد قدّمت فِلسين علامة حبّها لله ولإخوتها المحتاجين. وفي قبر السيِّد المسيح وُجد ملاكان، واحد عند الرأس والآخر عند القدمين إشارة إلى الحب الذي ربط السمائيّين مع الأرضيين فصار الكل جسدًا واحدًا في الرب المصلوب. وقد أعلن السيِّد ذاته لتلميذيّ عمواس، مظهرًا أنه يكشف عن أسراره للقلوب المحبّة.
إذن فصاحب الوزنات الخمس وصاحب الوزنتين نالا المكافأة الأبديّة بسبب حبِّهما لله والناس، أمّا صاحب الوزنة الواحدة التي دفنها في التراب فيُشير إلى الإنسان الأناني الذي يعمل لحساب ذاته وحده، فلا يرتبط بحب مع الله والناس، وإنما يتَقوْقع حول ذاته في أنانيّة قادرة أن تدفنه في التراب، وتجعل منه إنسانًا أرضيًا لا يقدر أن يرتفع نحو السماء حيث الحب! مثل هذا الإنسان الذي يحيا في التراب ليُشبع ذاته، يفسد نفسه ويخنقها إذ يدفنها في شهوات الجسد الترابي، فلا ينتفع روحيًا وحتى جسده يهلك، فيفقد السماء والأرض معًا.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق