كيف يكون المسيح هو الله ويجهل يوم القيامة
كيف يكون المسيح هو الله ويجهل يوم القيامة كما قال {أما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بها أحد ولا الملائكة الذين في السماء. ولا الابن إلاَّ الآب} (مر 13: 32)؟
1- السيد المسيح صاحب الشخصية الفريدة الوحيدة التي لم تحدث من قبل ولن تحدث فيما بعد، فهو يجمع الشيء ونقيضه في آن واحد كما رأينا عند دراستنا لطبيعة المسيح، فهو الظمآن المروىَ.. هو الجائع الشبعان.. هو المُتعَب المستريح.. هو الحزين الفرح.. هو المتألم والمنزَّه عن الألم.. هو الميت الحي، فهو يعطش ويجوع ويتعب ويحزن ويتألم ويموت.. إلخ. بحسب الناسوت، فهو قد شابهنا في كل شيء ما خلا الخطية وحدها، وهو المروي ومروي العطاش، وهو الشبعان وشبع الجياع، وهو المستريح ومريح التعابى، وهو الفرح دائمًا ومفرح القلوب، وهو المرتفع والمتسامي عن الألم، وهو المنزَّه عن الموت بحسب لاهوته، وبنفس المنطق لنا أن نتساءل: هل السيد المسيح يعلم اليوم وساعة القيامة أم يجهلهما؟ من جهة الناسوت نستطيع أن نقول بدون انزعاج أنه كان يجهلهما، وبحسب اللاهوت هو هو العالم بكل شيء، ولذلك نلاحظ أن الابن قال لا أعرف بعد أن لبس جسد بشريتنا، ولم يقل هذا قبل تجسده، فيقول القديس أثناسيوس "أنه قال هذا مثلما قال الأقوال الأخرى كإنسان بسبب الجسد، فهذا ليس نقصًا في الكلمة، بل هو من تلك الطبيعة البشرية التي تتصف بالجهل. متى ولمن تكلم المخلص هكذا؟ فهو لم يتكلم هكذا حينما خُلقت السموات بواسطته، ولا حينما كان الآب نفسه الكلمة الصانع كل الأشياء (أنظر أم 8: 27 - 30) وهو لم يقل هذا أيضًا قبل ولادته كإنسان، ولكن حينما صار الكلمة جسدًا، ولهذا السبب فمن الصواب أن تنسب إلى ناسوته كل شيء يتكلم به إنسانيًا بعد أن تأنس، لأنه من خاصية الكلمة أن يعرف مخلوقاته، وأن لا يجهل بدايته ونهايته، لأن هذه المخلوقات هي أعماله، وهو يعرف كم عددها وحدود تكوينها. وإذ هو يعرف بداية كل شيء ونهايته، فإنه يعرف بالتأكيد النهاية العامة والمشتركة للكل.. فواضح أنه بصفته الكلمة، يعرف أيضًا ساعة نهاية كل الأشياء ورغم أنه كإنسان يجهلها، لأن الجهل هو من خصائص الإنسان..
منذ أن صار إنسانًا لم يخجل -بسبب الجسد الذي يجهل- أن يقول لا أعرف لكي يوضح أنه بينما هو يعرف كإله، فهل يجهل جسديًا، ولذلك فهو لم يقل {ولا ابن الله يعرف} لئلا يبدو أن اللاهوت يجهل، بل قال ببساطة ولا الابن، لكي يكون الجهل خاصًا بالابن المولود من البشر" (117).
وأيضًا قال "وأما المحبون للمسيح والذين يحملون المسيح، يعرفون أن الكلمة باعتباره الكلمة قال لا أعرف، لا لأنه لا يعرف، إذ هو يعرف (كل شيء) ولكن لكي يُظهِر الناحية الإنسانية، إذ أن الجهل خاص بالبشر، وأنه قد لبس الجسد الذي يجهل، والذي بوجوده فيه قال بحسب الجسد لا أعرف" (118).
كما قال القديس أثناسيوس "حسنًا قال حينئذ {ولا الابن}، جسديًا، بسبب الجسد، لكي يظهر أنه كإنسان، لا يعرف لأن الجهل هو من خصائص البشر، ولكن إذ هو الكلمة، وهو الذي سوف يأتي، وهو الديان وهو العريس، فهو يعرف متى وفي أية ساعة سيأتي، ومتى سيقال {أستيقظ أيها النائم وقم من الأموات فيضئ لك المسيح} (أف 5: 14) كما أنه إذ صار إنسانًا فهو كان يجوع ويعطش ويتألم مع الناس، هكذا مع الناس كإنسان فهو لا يعرف، رغم أنه كإله إذ هو كلمة الآب وحكمته فهو يعرف، ولا يوجد شيء لا يعرفه. وهكذا أيضًا في حالة لعازر فهو يسأل كإنسان بينما كان في طريقه لكي يقيمه، ويعرف من أين سيدعو نفس لعازر مرة ثانية.. ولكنه سأل إنسانيًا لكي يقيمه إلهيًا" (119).
2- من إثباتات أن السيد المسيح يعلم باليوم والساعة ما يلي:
أ- الابن هو الذي خلق كل شيء " كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان" (يو 1: 3) فلا بد أن يعرف وقت نهاية هذه الأشياء.
ب- تحدث السيد المسيح بالتفصيل عن علامات مجيئه فلابد أنه يعلم اليوم الذي سيأتي فيه، قال له المجد " سوف تسمعون بحروب وأخبار حروب.. لأنه تقوم أمَّة على أمَّةٍ ومملكة على مملكةٍ وتكون مجاعات وأوبئة وزلازل في أماكن. ولكن هذه كلها مبتدأ الأوضاع" (مت 24: 6 - 8).. " وللوقت بعد ضيق تلك الأيام تُظلم الشمس والقمر لا يعطي ضوءه والنجوم تسقط من السماء وقوات السموات تتزعزع. وحينئذ تظهر علامة ابن الإنسان في السماء.." (مت 24: 29، 30) ويقول القديس أثناسيوس "لأنه بالكلمة قد خُلقت كل الأشياء والأزمنة والأوقات والليل والنهار وكل الخليقة، فهل يقال بعد ذلك أن الخالق يجهل عمله؟ ولكن بمواصلة القراءة في هذا الفصل يتضح أن ابن الله يعرف تلك الساعة وذلك اليوم.. لأنه بينما يقول (ولا الابن) يشرح للتلاميذ ما يحدث قبل ذلك اليوم قائلًا سيكون هذا وذاك، ثم يأتي المنتهى (أنظر مت 24) فالذي يتكلم عن ما يحدث قبل ذلك اليوم، يعرف اليوم أيضًا بالتأكيد.." .
ج - الذي سيدين العالم هو السيد المسيح الذي وصف أحداث الدينونة (راجع المسيح الديان) فلا أنه سيعلم وقت هذه الدينونة.
د - الابن واحد مع الآب في الجوهر، وله كل ما للآب " كل ما للآب فهو لي" (يوم 16: 15) فلا بد أنه يعرف الساعة، وهل يُعقل أن أقنوم الكلمة والمعرفة والحكمة لا يعرف؟ ويقول القديس أثناسيوس "ومن خصائص الآب أن يعرف اليوم، فواضح أن الابن أيضًا يعرف اليوم إذ أن له هذه الخاصية من الآب. وأيضًا إن كان الابن في الآب والآب في الابن. والآب يعرف اليوم والساعة، فواضح إن الابن لكونه في الآب يعرف كل ما هو للآب، وهو نفسه أيضًا يعرف اليوم والساعة"
ه- إذا كان الابن لوحده فقط هو الذي يعرف الآب المعرفة الذاتية، وقال "ليس أحد يعرف الابن إلاَّ الآب. ولا أحد يعرف الآب إلاَّ الابن ومن أراد الابن أن يعلن له" (مت 11: 27) (راجع المعرفة الكاملة بالدرس الثاني) فأيهما أيسر على الابن أن يعرف الآب في جوهره أم أنه يعرف ساعة القيامة؟!!.
و- لو أخذنا بالحرف فأنه قال "إن هذه الساعة لا يعرفها أحد إلاَّ الآب" فهو بهذا نفى هذه المعرفة عن الروح القدس الذي يفحص أعماق الله " لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله" (1 كو 2: 10) فأيهما أيسر للروح القدس أن يعرف أعماق الله أم أن يعرف ساعة القيامة؟!!
3- ولك يا صديقي أن تلاحظ أن للابن مركزًا فريدًا في هذه الآية. فقال عن اليوم والساعة لا يعلم بهما أولًا: أحد من البشر، وثانيًا: الملائكة، وثالثًا: الابن. فلماذا لم يدمج اسم الابن مع البشر والملائكة..؟ لأنه ليس مجرد إنسانًا ولا ملاكًا بل هو خالق الإنسان والملائكة.
وفي نفس الموقف ينسب الملائكة للسيد المسيح فيقول "حينئذ يبصرون ابن الإنسان.. فيرسل حينئذ ملائكته" (مر 13: 26، 27) فهو رب الملائكة، والملائكة ملائكته لأنه هو الله المتأنس.
ولنا أن نتساءل لماذا وردت هذه الآية في بشارة مرقس بالذات وفقط دون البشائر الثلاث الأخرى..؟ لأن بشارة متى تتكلم عن المسيح الملك ومفتاحها " أين هو المولود ملك اليهود؟" (مت 2: 2) وبشارة لوقا تتكلم عن المسيح الإنسان الكامل ومفتاحها " إني لا أجد علة في هذا الإنسان" (لو 23: 4) وبشارة يوحنا تتكلم عن المسيح ابن الله ومفتاحها "وآيات أخرى كثيرة صنع يسوع.. أمَّا هذه فقد كُتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه" (يو 20: 30، 31) أما بشارة مرقس فإنها تتحدث عن المسيح العبد ومفتاحها "لأن ابن الإنسان أيضًا لم يأتِ ليُخدَم بل ليخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين" (مر 10: 45) ولذلك وردت هذه الآية في هذه البشارة فقط التي تحدثنا عن المسيح الذي أخلى ذاته وظهر في صورة العبد، وقال الرب يسوع " العبد لا يعلم ما يعمل سيده" (يو 15: 15) فكيف يأخذ في اتضاعه صورة العبد ويعلم اليوم والساعة..؟ هو كعبد ينبغي أن لا يعلم، وأما كونه رب الكل فهو يعلم كل شيء.
4- ولنا أن نتساءل: إن كان الابن يعلم اليوم والساعة فلماذا لم يبح بهما لأخصائه؟
أ- السيد المسيح يعرف اليوم والساعة، ولكنه لم يرد أن يعلنهما وذلك نظرًا للضرر الذي سيترتب على معرفة هذا اليوم، فلو علم الإنسان أن ذلك اليوم مازال بعيدًا بعيدًا فإن هذا سيقوده للتهاون والإهمال وطرح السهر والاستعداد، وإن علم أحد أن هذا اليوم سيكون قريبًا فإنه سينزعج وتضطرب حياته، فمن يتأكد أن نهاية العالم مثلًا ستكون بعد عدة أشهر ويستطيع أن يعمل ويجد ويكافح ويشقى في هذه الأرض..؟! لا بُد أن الحركة ستقف ويصاب الإنسان بأذى شديد، ومن أجل هذا الهدف يخفي الله أيضًا عن كل نفس ميعاد انتقالها من هذا العالم.. لقد أغلق السيد المسيح باب هذه المعرفة أمام الجميع فقال "ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سلطانه" (أع 1: 7) وأوصى الجميع بالسهر " أسهروا إذًا لأنكم لا تعلمون في أية ساعة يأتي ربكم" (مت 24: 43).. " فاسهروا إذًا لأنكم لا تعرفون اليوم ولا الساعة التي يأتي فيها ابن الإنسان" (مت 25: 13).
ويقول القديس يوحنا ذهبي الفم "بقوله (ولا الملائكة) يسد شفاههم عن طلب معرفة ما لا تعرفه الملائكة، وبقوله (ولا الابن) يمنعهم ليس فقط من معرفته وإنما حتى عن السؤال عنه" (122). ويقول القديس أوغسطينوس "حقًا إن الآب لا يعرف شيئًا لا يعرفه الابن. لأن الابن هو معرفة الآب نفسه وحكمته فهو ابنه وكلمته وحكمته. لكن ليس من صالحنا أن يخبرنا بما ليس في صالحنا أن نعرفه.. أنه كمعلم يعلمنا بعض الأمور ويترك الأخرى لا يعرفنا بها. أنه يعرف أن يخبرنا بما هو لصالحنا ولا يخبرنا بالأمور التي تضرنا معرفتها"
ب- لقد أخفى السيد المسيح لاهوته عن الشيطان، وعندما قال في اتضاع أن الابن لا يعرف شك الشيطان المتكبر في شخص ابن الله، وقال كيف يكون ابن الله ولا يعلم؟! فاعتقد الشيطان أن السيد المسيح لا يمكن أن يكون ابن الله، ونصب له شباك الموت، فسقط في الدينونة لأنه حاول اقتناص نفس بريئة وحاول سفك دماءًا ذكية، فكانت هذه بمثابة الضربة القاضية التي وجهها السيد المسيح لعدو الخير كما سنرى ذلك بالتفصيل عند دراستنا لموضوع الصليب.
5- وقد يتساءل البعض: مادام السيد المسيح يعرف اليوم والساعة بلاهوته، فهل يصح أن يقول إني لا أعرف؟
لو سأل أحد الطلبة الذين يؤدون الامتحان في اللغة الإنجليزية مثلًا مدرس ذات اللغة الذي يراقب في لجنة الامتحان عن أي سؤال، فقد يقول له المدرس: إني لا أعرف بينما هو في حقيقة الأمر يعرف وقد يكون هو الذي وضع الامتحان، ولكنه لا يعرف المعرفة التي تسمح له بالإباحة بالمعلومات في هذه الساعة، ولو سُئِل أب اعتراف عن اعترافات شخص ما قد أعترف له، فقد يقول إني لا أعرف، لأنه لا يعرف المعرفة التي تسمح له بالإباحة بالسر، فلا يقدر أن يصرح أو يلمح بالإجابة حتى ولو تعرض لضغوط شديدة من قِبل الآخرين.
ويقول نيافة المتنيح الأنبا يؤانس مطران الغربية " ونحن نجيب على ذلك بقولنا إن السيد المسيح كان يعلم ولا يعلم.. بحسب لاهوته يعلم لكن بحسب ناسوته لا يعلم.. من جهة اللاهوت فإن المسيح يعلم بكل شيء حاضرًا ومستقبلًا، فلقد كشف للمرأة السامرية ما خفي على الناس، وكان يعرف أفكار تلاميذه وما يفكر فيه الكتبة والفريسيون، وقد أخبر بطرس تلميذه بما كان عتيدًا أن يلحقه من ضعف وإنكار.. وعرف حديث الذين يأخذون ضريبة الدرهمين مع بطرس وأمره أن يذهب إلى البحر ويلقي صنارته والسمكة التي يصطادها أولًا سيجد فيها أستارًا يدفع منها الضريبة المطلوبة.. وبعد قيامته علم بإنكار تلميذه توما لهذه القيامة ما لم يضع أصبعه في أثر المسامير ويضع يده في جنبه مكان الحربة. فكيف بعد هذا يُقال أنه لا يعرف؟!!
أنه يعلم ويعرف المعرفة التي لا تقال لحكمة.. فالمدرس الذي يضع امتحان نهاية العام حينما يسأله تلاميذه عن جزء من المقرَّر الدراسي وهل سيأتي عنه سؤال، يجيب {لا أعرف} بينما هو يعرف لأنه واضع الامتحان، ولكنها المعرفة التي لا تقال لحكمة.
ثم كيف يُقال أن المسيح ابن الله لا يعرف وقد أخبر تلاميذه قبل هذه الآية مباشرة بعلامات نهاية العالم {حروب وأخبار حروب، وقيام الأمم والممالك ضد بعضها، وحدوث زلازل ومجاعات واضطرابات، وما سيحل بالمؤمنين من اضطهادات}.. أنه كمن يصف طريقًا بكل دقة لآخر وهذا لا يتأتى إلاَّ إذا كان المتكلم يعرف الطريق جيدًا. ثم كيف لا يعرف وهو {المذَّخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم} (كو 2: 3).. وكيف لا يعلم والأمر يتعلق بالكون الذي خلقه. فلو كان الابن هو الخالق، فكيف لا يعلم متى ينتهي ما خلق؟!.
ثم كيف إن الآب وحده يعلم ذلك اليوم وتلك الساعة، ولا يعلمها الابن وهو القائل {كل ما للآب هو لي} (يو 6: 15) {كل ما هو لي فهو لك. وما هو لك فهو لي} (يو 17: 10) {الآب يعرفني وأنا أعرف الآب} (يو 10: 15).. أيهما أيسر أن يعرف الابن الآب تلك المعرفة العيانية التي تكلم عنها قبلًا، أم أن يعرف اليوم والساعة وهو موضوع أقل من معرفة الآب المعرفة العيانية بكثير.. قال السيد المسيح {لا أحد يعرف الآب إلاَّ الابن ومن أراد الابن أن يُعلن له} (مت 11: 27)..
ثم كيف لا يعلم الابن باليوم والساعة وهو الديان الذي سيدين العالم {لأن الآب لا يدين أحدًا بل قد أعطى كل الدينونة للابن} (يو 5: 22).. وإذا كان هو الديان الذي سيدين العالم فكيف لا يعرف ساعته؟
ولكن إن كان السيد المسيح لم يرد أن يفصح عن موعد اليوم والساعة، فذلك لكي ما يجعل الناس مستعدين على نحو ما أخفى الله عن الإنسان موعد انتقاله من هذا العالم.. وثمة أمر هام وهو أن المسيح بقوله {إلاَّ الآب} فكأنه ينفي المعرفة عن الروح القدس، وكيف لا يعرف الروح القدس اليوم والساعة وهو الذي يفحص كل شيء حتى أعماق الله (1 كو 2: 10)!! إذًا لا يمكن أن يجهل الروح القدس اليوم والساعة وفي هذه الحالة يكون أعظم من الابن، بينما الابن يقول عن الروح القدس أنه {يأخذ مما لي ويخبركم} (يو 16: 14)"
1- السيد المسيح صاحب الشخصية الفريدة الوحيدة التي لم تحدث من قبل ولن تحدث فيما بعد، فهو يجمع الشيء ونقيضه في آن واحد كما رأينا عند دراستنا لطبيعة المسيح، فهو الظمآن المروىَ.. هو الجائع الشبعان.. هو المُتعَب المستريح.. هو الحزين الفرح.. هو المتألم والمنزَّه عن الألم.. هو الميت الحي، فهو يعطش ويجوع ويتعب ويحزن ويتألم ويموت.. إلخ. بحسب الناسوت، فهو قد شابهنا في كل شيء ما خلا الخطية وحدها، وهو المروي ومروي العطاش، وهو الشبعان وشبع الجياع، وهو المستريح ومريح التعابى، وهو الفرح دائمًا ومفرح القلوب، وهو المرتفع والمتسامي عن الألم، وهو المنزَّه عن الموت بحسب لاهوته، وبنفس المنطق لنا أن نتساءل: هل السيد المسيح يعلم اليوم وساعة القيامة أم يجهلهما؟ من جهة الناسوت نستطيع أن نقول بدون انزعاج أنه كان يجهلهما، وبحسب اللاهوت هو هو العالم بكل شيء، ولذلك نلاحظ أن الابن قال لا أعرف بعد أن لبس جسد بشريتنا، ولم يقل هذا قبل تجسده، فيقول القديس أثناسيوس "أنه قال هذا مثلما قال الأقوال الأخرى كإنسان بسبب الجسد، فهذا ليس نقصًا في الكلمة، بل هو من تلك الطبيعة البشرية التي تتصف بالجهل. متى ولمن تكلم المخلص هكذا؟ فهو لم يتكلم هكذا حينما خُلقت السموات بواسطته، ولا حينما كان الآب نفسه الكلمة الصانع كل الأشياء (أنظر أم 8: 27 - 30) وهو لم يقل هذا أيضًا قبل ولادته كإنسان، ولكن حينما صار الكلمة جسدًا، ولهذا السبب فمن الصواب أن تنسب إلى ناسوته كل شيء يتكلم به إنسانيًا بعد أن تأنس، لأنه من خاصية الكلمة أن يعرف مخلوقاته، وأن لا يجهل بدايته ونهايته، لأن هذه المخلوقات هي أعماله، وهو يعرف كم عددها وحدود تكوينها. وإذ هو يعرف بداية كل شيء ونهايته، فإنه يعرف بالتأكيد النهاية العامة والمشتركة للكل.. فواضح أنه بصفته الكلمة، يعرف أيضًا ساعة نهاية كل الأشياء ورغم أنه كإنسان يجهلها، لأن الجهل هو من خصائص الإنسان..
منذ أن صار إنسانًا لم يخجل -بسبب الجسد الذي يجهل- أن يقول لا أعرف لكي يوضح أنه بينما هو يعرف كإله، فهل يجهل جسديًا، ولذلك فهو لم يقل {ولا ابن الله يعرف} لئلا يبدو أن اللاهوت يجهل، بل قال ببساطة ولا الابن، لكي يكون الجهل خاصًا بالابن المولود من البشر" (117).
وأيضًا قال "وأما المحبون للمسيح والذين يحملون المسيح، يعرفون أن الكلمة باعتباره الكلمة قال لا أعرف، لا لأنه لا يعرف، إذ هو يعرف (كل شيء) ولكن لكي يُظهِر الناحية الإنسانية، إذ أن الجهل خاص بالبشر، وأنه قد لبس الجسد الذي يجهل، والذي بوجوده فيه قال بحسب الجسد لا أعرف" (118).
كما قال القديس أثناسيوس "حسنًا قال حينئذ {ولا الابن}، جسديًا، بسبب الجسد، لكي يظهر أنه كإنسان، لا يعرف لأن الجهل هو من خصائص البشر، ولكن إذ هو الكلمة، وهو الذي سوف يأتي، وهو الديان وهو العريس، فهو يعرف متى وفي أية ساعة سيأتي، ومتى سيقال {أستيقظ أيها النائم وقم من الأموات فيضئ لك المسيح} (أف 5: 14) كما أنه إذ صار إنسانًا فهو كان يجوع ويعطش ويتألم مع الناس، هكذا مع الناس كإنسان فهو لا يعرف، رغم أنه كإله إذ هو كلمة الآب وحكمته فهو يعرف، ولا يوجد شيء لا يعرفه. وهكذا أيضًا في حالة لعازر فهو يسأل كإنسان بينما كان في طريقه لكي يقيمه، ويعرف من أين سيدعو نفس لعازر مرة ثانية.. ولكنه سأل إنسانيًا لكي يقيمه إلهيًا" (119).
2- من إثباتات أن السيد المسيح يعلم باليوم والساعة ما يلي:
أ- الابن هو الذي خلق كل شيء " كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان" (يو 1: 3) فلا بد أن يعرف وقت نهاية هذه الأشياء.
ب- تحدث السيد المسيح بالتفصيل عن علامات مجيئه فلابد أنه يعلم اليوم الذي سيأتي فيه، قال له المجد " سوف تسمعون بحروب وأخبار حروب.. لأنه تقوم أمَّة على أمَّةٍ ومملكة على مملكةٍ وتكون مجاعات وأوبئة وزلازل في أماكن. ولكن هذه كلها مبتدأ الأوضاع" (مت 24: 6 - 8).. " وللوقت بعد ضيق تلك الأيام تُظلم الشمس والقمر لا يعطي ضوءه والنجوم تسقط من السماء وقوات السموات تتزعزع. وحينئذ تظهر علامة ابن الإنسان في السماء.." (مت 24: 29، 30) ويقول القديس أثناسيوس "لأنه بالكلمة قد خُلقت كل الأشياء والأزمنة والأوقات والليل والنهار وكل الخليقة، فهل يقال بعد ذلك أن الخالق يجهل عمله؟ ولكن بمواصلة القراءة في هذا الفصل يتضح أن ابن الله يعرف تلك الساعة وذلك اليوم.. لأنه بينما يقول (ولا الابن) يشرح للتلاميذ ما يحدث قبل ذلك اليوم قائلًا سيكون هذا وذاك، ثم يأتي المنتهى (أنظر مت 24) فالذي يتكلم عن ما يحدث قبل ذلك اليوم، يعرف اليوم أيضًا بالتأكيد.." .
ج - الذي سيدين العالم هو السيد المسيح الذي وصف أحداث الدينونة (راجع المسيح الديان) فلا أنه سيعلم وقت هذه الدينونة.
د - الابن واحد مع الآب في الجوهر، وله كل ما للآب " كل ما للآب فهو لي" (يوم 16: 15) فلا بد أنه يعرف الساعة، وهل يُعقل أن أقنوم الكلمة والمعرفة والحكمة لا يعرف؟ ويقول القديس أثناسيوس "ومن خصائص الآب أن يعرف اليوم، فواضح أن الابن أيضًا يعرف اليوم إذ أن له هذه الخاصية من الآب. وأيضًا إن كان الابن في الآب والآب في الابن. والآب يعرف اليوم والساعة، فواضح إن الابن لكونه في الآب يعرف كل ما هو للآب، وهو نفسه أيضًا يعرف اليوم والساعة"
ه- إذا كان الابن لوحده فقط هو الذي يعرف الآب المعرفة الذاتية، وقال "ليس أحد يعرف الابن إلاَّ الآب. ولا أحد يعرف الآب إلاَّ الابن ومن أراد الابن أن يعلن له" (مت 11: 27) (راجع المعرفة الكاملة بالدرس الثاني) فأيهما أيسر على الابن أن يعرف الآب في جوهره أم أنه يعرف ساعة القيامة؟!!.
و- لو أخذنا بالحرف فأنه قال "إن هذه الساعة لا يعرفها أحد إلاَّ الآب" فهو بهذا نفى هذه المعرفة عن الروح القدس الذي يفحص أعماق الله " لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله" (1 كو 2: 10) فأيهما أيسر للروح القدس أن يعرف أعماق الله أم أن يعرف ساعة القيامة؟!!
3- ولك يا صديقي أن تلاحظ أن للابن مركزًا فريدًا في هذه الآية. فقال عن اليوم والساعة لا يعلم بهما أولًا: أحد من البشر، وثانيًا: الملائكة، وثالثًا: الابن. فلماذا لم يدمج اسم الابن مع البشر والملائكة..؟ لأنه ليس مجرد إنسانًا ولا ملاكًا بل هو خالق الإنسان والملائكة.
وفي نفس الموقف ينسب الملائكة للسيد المسيح فيقول "حينئذ يبصرون ابن الإنسان.. فيرسل حينئذ ملائكته" (مر 13: 26، 27) فهو رب الملائكة، والملائكة ملائكته لأنه هو الله المتأنس.
ولنا أن نتساءل لماذا وردت هذه الآية في بشارة مرقس بالذات وفقط دون البشائر الثلاث الأخرى..؟ لأن بشارة متى تتكلم عن المسيح الملك ومفتاحها " أين هو المولود ملك اليهود؟" (مت 2: 2) وبشارة لوقا تتكلم عن المسيح الإنسان الكامل ومفتاحها " إني لا أجد علة في هذا الإنسان" (لو 23: 4) وبشارة يوحنا تتكلم عن المسيح ابن الله ومفتاحها "وآيات أخرى كثيرة صنع يسوع.. أمَّا هذه فقد كُتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه" (يو 20: 30، 31) أما بشارة مرقس فإنها تتحدث عن المسيح العبد ومفتاحها "لأن ابن الإنسان أيضًا لم يأتِ ليُخدَم بل ليخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين" (مر 10: 45) ولذلك وردت هذه الآية في هذه البشارة فقط التي تحدثنا عن المسيح الذي أخلى ذاته وظهر في صورة العبد، وقال الرب يسوع " العبد لا يعلم ما يعمل سيده" (يو 15: 15) فكيف يأخذ في اتضاعه صورة العبد ويعلم اليوم والساعة..؟ هو كعبد ينبغي أن لا يعلم، وأما كونه رب الكل فهو يعلم كل شيء.
4- ولنا أن نتساءل: إن كان الابن يعلم اليوم والساعة فلماذا لم يبح بهما لأخصائه؟
أ- السيد المسيح يعرف اليوم والساعة، ولكنه لم يرد أن يعلنهما وذلك نظرًا للضرر الذي سيترتب على معرفة هذا اليوم، فلو علم الإنسان أن ذلك اليوم مازال بعيدًا بعيدًا فإن هذا سيقوده للتهاون والإهمال وطرح السهر والاستعداد، وإن علم أحد أن هذا اليوم سيكون قريبًا فإنه سينزعج وتضطرب حياته، فمن يتأكد أن نهاية العالم مثلًا ستكون بعد عدة أشهر ويستطيع أن يعمل ويجد ويكافح ويشقى في هذه الأرض..؟! لا بُد أن الحركة ستقف ويصاب الإنسان بأذى شديد، ومن أجل هذا الهدف يخفي الله أيضًا عن كل نفس ميعاد انتقالها من هذا العالم.. لقد أغلق السيد المسيح باب هذه المعرفة أمام الجميع فقال "ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سلطانه" (أع 1: 7) وأوصى الجميع بالسهر " أسهروا إذًا لأنكم لا تعلمون في أية ساعة يأتي ربكم" (مت 24: 43).. " فاسهروا إذًا لأنكم لا تعرفون اليوم ولا الساعة التي يأتي فيها ابن الإنسان" (مت 25: 13).
ويقول القديس يوحنا ذهبي الفم "بقوله (ولا الملائكة) يسد شفاههم عن طلب معرفة ما لا تعرفه الملائكة، وبقوله (ولا الابن) يمنعهم ليس فقط من معرفته وإنما حتى عن السؤال عنه" (122). ويقول القديس أوغسطينوس "حقًا إن الآب لا يعرف شيئًا لا يعرفه الابن. لأن الابن هو معرفة الآب نفسه وحكمته فهو ابنه وكلمته وحكمته. لكن ليس من صالحنا أن يخبرنا بما ليس في صالحنا أن نعرفه.. أنه كمعلم يعلمنا بعض الأمور ويترك الأخرى لا يعرفنا بها. أنه يعرف أن يخبرنا بما هو لصالحنا ولا يخبرنا بالأمور التي تضرنا معرفتها"
ب- لقد أخفى السيد المسيح لاهوته عن الشيطان، وعندما قال في اتضاع أن الابن لا يعرف شك الشيطان المتكبر في شخص ابن الله، وقال كيف يكون ابن الله ولا يعلم؟! فاعتقد الشيطان أن السيد المسيح لا يمكن أن يكون ابن الله، ونصب له شباك الموت، فسقط في الدينونة لأنه حاول اقتناص نفس بريئة وحاول سفك دماءًا ذكية، فكانت هذه بمثابة الضربة القاضية التي وجهها السيد المسيح لعدو الخير كما سنرى ذلك بالتفصيل عند دراستنا لموضوع الصليب.
5- وقد يتساءل البعض: مادام السيد المسيح يعرف اليوم والساعة بلاهوته، فهل يصح أن يقول إني لا أعرف؟
لو سأل أحد الطلبة الذين يؤدون الامتحان في اللغة الإنجليزية مثلًا مدرس ذات اللغة الذي يراقب في لجنة الامتحان عن أي سؤال، فقد يقول له المدرس: إني لا أعرف بينما هو في حقيقة الأمر يعرف وقد يكون هو الذي وضع الامتحان، ولكنه لا يعرف المعرفة التي تسمح له بالإباحة بالمعلومات في هذه الساعة، ولو سُئِل أب اعتراف عن اعترافات شخص ما قد أعترف له، فقد يقول إني لا أعرف، لأنه لا يعرف المعرفة التي تسمح له بالإباحة بالسر، فلا يقدر أن يصرح أو يلمح بالإجابة حتى ولو تعرض لضغوط شديدة من قِبل الآخرين.
ويقول نيافة المتنيح الأنبا يؤانس مطران الغربية " ونحن نجيب على ذلك بقولنا إن السيد المسيح كان يعلم ولا يعلم.. بحسب لاهوته يعلم لكن بحسب ناسوته لا يعلم.. من جهة اللاهوت فإن المسيح يعلم بكل شيء حاضرًا ومستقبلًا، فلقد كشف للمرأة السامرية ما خفي على الناس، وكان يعرف أفكار تلاميذه وما يفكر فيه الكتبة والفريسيون، وقد أخبر بطرس تلميذه بما كان عتيدًا أن يلحقه من ضعف وإنكار.. وعرف حديث الذين يأخذون ضريبة الدرهمين مع بطرس وأمره أن يذهب إلى البحر ويلقي صنارته والسمكة التي يصطادها أولًا سيجد فيها أستارًا يدفع منها الضريبة المطلوبة.. وبعد قيامته علم بإنكار تلميذه توما لهذه القيامة ما لم يضع أصبعه في أثر المسامير ويضع يده في جنبه مكان الحربة. فكيف بعد هذا يُقال أنه لا يعرف؟!!
أنه يعلم ويعرف المعرفة التي لا تقال لحكمة.. فالمدرس الذي يضع امتحان نهاية العام حينما يسأله تلاميذه عن جزء من المقرَّر الدراسي وهل سيأتي عنه سؤال، يجيب {لا أعرف} بينما هو يعرف لأنه واضع الامتحان، ولكنها المعرفة التي لا تقال لحكمة.
ثم كيف يُقال أن المسيح ابن الله لا يعرف وقد أخبر تلاميذه قبل هذه الآية مباشرة بعلامات نهاية العالم {حروب وأخبار حروب، وقيام الأمم والممالك ضد بعضها، وحدوث زلازل ومجاعات واضطرابات، وما سيحل بالمؤمنين من اضطهادات}.. أنه كمن يصف طريقًا بكل دقة لآخر وهذا لا يتأتى إلاَّ إذا كان المتكلم يعرف الطريق جيدًا. ثم كيف لا يعرف وهو {المذَّخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم} (كو 2: 3).. وكيف لا يعلم والأمر يتعلق بالكون الذي خلقه. فلو كان الابن هو الخالق، فكيف لا يعلم متى ينتهي ما خلق؟!.
ثم كيف إن الآب وحده يعلم ذلك اليوم وتلك الساعة، ولا يعلمها الابن وهو القائل {كل ما للآب هو لي} (يو 6: 15) {كل ما هو لي فهو لك. وما هو لك فهو لي} (يو 17: 10) {الآب يعرفني وأنا أعرف الآب} (يو 10: 15).. أيهما أيسر أن يعرف الابن الآب تلك المعرفة العيانية التي تكلم عنها قبلًا، أم أن يعرف اليوم والساعة وهو موضوع أقل من معرفة الآب المعرفة العيانية بكثير.. قال السيد المسيح {لا أحد يعرف الآب إلاَّ الابن ومن أراد الابن أن يُعلن له} (مت 11: 27)..
ثم كيف لا يعلم الابن باليوم والساعة وهو الديان الذي سيدين العالم {لأن الآب لا يدين أحدًا بل قد أعطى كل الدينونة للابن} (يو 5: 22).. وإذا كان هو الديان الذي سيدين العالم فكيف لا يعرف ساعته؟
ولكن إن كان السيد المسيح لم يرد أن يفصح عن موعد اليوم والساعة، فذلك لكي ما يجعل الناس مستعدين على نحو ما أخفى الله عن الإنسان موعد انتقاله من هذا العالم.. وثمة أمر هام وهو أن المسيح بقوله {إلاَّ الآب} فكأنه ينفي المعرفة عن الروح القدس، وكيف لا يعرف الروح القدس اليوم والساعة وهو الذي يفحص كل شيء حتى أعماق الله (1 كو 2: 10)!! إذًا لا يمكن أن يجهل الروح القدس اليوم والساعة وفي هذه الحالة يكون أعظم من الابن، بينما الابن يقول عن الروح القدس أنه {يأخذ مما لي ويخبركم} (يو 16: 14)"